"الطريق"لعبد اللطيف عبد الحميد...التفكير هو أن تدفعنا إليه الصورة

أنور محمد
الخميس   2022/12/29
لقطة من فيلم الطريق الجد مع الحفيد

 

 

 المخرجُ السوري عبد اللطيف عبد الحميد 1954، في فيلمه "الطريق" 100 د، والذي كتب له السيناريو بالشراكة مع الشاعر والروائي الراحل عادل محمود، وهو الذي كتب سيناريوهات كل أفلامه، منها: رسائل شفهية 1991"، صعود المطر 1994، نسيم الروح 1998، قمران وزيتونة 2001، خارج التغطية 2006، أيام الضجر 2008، الإفطار الأخير 2021. وكان نال عن بعضها عدداً من الجوائز. من تمثيل: موفق الأحمد، غيث ضاهر، مأمون الخطيب، محمد شمّا، أحمد كنعان، رند عباس، نبراس ملحم، عدنان عربيني، راما الزين، تماضر غانم، ماجد عيسى، علاء زهر الدين، هاشم غزال، خالد رزق. الإضاءة والتصوير: باسل سراولجي، ديكور: أدهم مناوي، تصميِم ملابس: سهى حيدر، موسيقى: خالد رزق، مكياج: أحمد حيدر. وكان الفيلم - إنتاج المؤسَّسة العامة للسينما، قد نال مؤخراً جائزة الجمهور، وجائزة أفضل ممثِّل لموفق الأحمد، وجائزة أفضل سيناريو، في الدورة 33 من مهرجان أيام قرطاج السينمائية 2022.

 الفيلم ومنذ اللقطات الأولى يُحيلنا إلى صورٍ ذاتُ نبضٍ هجائي ضدَّ اليأس والتيئيس، مِنْ مَنْ لا أمل منه في الشفاء من الغباء، إذ ترفض إدارة المدرسة قبول الطفل صالح بين تلاميذها باعتباره ولداً غبياً- فيكون الرد من الجَد صالح وفي خطابٍ مثيرٍ لانفعال المُشاهِد، رداً ماكراً يحوِّل فيه الطفل صالح - والاسم نقيض الطالح، من ولدٍ غبيٍّ غير قابل للتعلُّم والتطور؛ إلى ذكيٍّ بدرجة طبيب أعصاب- يذكِّرنا بفكرة مسرحية بيجماليون، ذلك كصورةٍ حسيَّة ذات خصوبة مادية، آخذاً بحالة المُخترع توماس ألفا إديسون 1847–1931 الذي وصفه أستاذه بأنَّه "فاسد" فقامت والدتُه بتدريسه في المنزل إذ يقول: والدتي هِيَ مَنْ صَنعَتني، لقد كانت واثقةً بي؛ حينها شعرتُ بأنَّ لحياتي هدف، وأنَّني شخصٌ لا يمكنني خذلانه". هنا نتساءل: هل يهجو ويغمز المخرج عبد اللطيف من تدني التعليم المدرسي وتحوُّل هذه المهنة إلى مرضٍ يستنزف جيوب الأسرة السورية، كون مُعظم المعلمين افتتحوا صفوفاً ومعاهد لإعطاء الدروس للتلاميذ والطلاب ولكن بأجر عالٍ، إضافةً لرواتبهم المتواضعة من الدولة، باعتبار أنَّ الذكاء يمرُّ من هذه المعاهد؟.

 في الفيلم الجدُّ صالح؛ وهو الأستاذ الجامعي المُتقاعدُ والذي كان يُدرِّس في جامعة دمشق، هُوَ من يقوم بتدريس حفيده، فيُنشئ له مدرسة في القرية- تقع أحداث الفيلم في قريةٍ في ريف الساحل السوري، وهي المكان الآسر والساحر الذي استقى وصوَّر فيه المخرج عبد اللطيف عبد الحميد كلَّ أفلامه، وسنرى أنَّ الزمن الماضي في هذا المكان يثقلُ ذاكرته التي يمتح منها معظم قصص أفلامه. ماضٍ يبدو أنَّه مستعصٍ عليه بسبب قسوة المعاناة الشعورية التي لم ينتهِ من استقلابها والنبش والحفر فيها. لذا، وفي الصور المتلاحقة لفيلمه، يحاول عبد اللطيف أن يخلق مشاركة، أو تجاذباً صوفياً ما بينه وبين المُشاهِد، فنرى الجدَّ – أدَّى دوره الممثِّل موفق الأحمد، يبذل جهداً أدائياً بطاقة روحية عالية كأنَّ الكلمة في الحوار تسيل من على جسده وليس مِنْ فيه- وربَّما لهذا السبب احتاز جائزة أفضل ممثِّل؛ هناك تناغماتٌ وإيقاعاتٌ نفسية داخلية قاسية تملأُ اللقطة؛ إيقاعات تبعثُ مرَّةً الضحك التهكمي، ومرَّةً التألُّم من مرارة العنف الذي نتقبله على مضضٍ وترانا غير قادرين على ردِّه. نَرُدُّ ولا نَرُدُّ من خوفٍ أو من عجزٍ، أو من العقوبة مهما كُنَّا بريئين، فنقعُ، أو نصيرُ نُفكِّر.

 التفكير هو ما يجب أن تدفعنا إليه الصورة، أو ما تحرِّك به عقلنا- التفكير هنا بمصير الولد صالح- أدَّى دوره غيث ضاهر بعد وفاة أُمِّه وسفر والده- أدَّى دوره الممثِّل ماجد عيسى، للعمل في حقول نفط "الرميلان" بمحافظة الحسكة. لقد وُضِعَ الجدُّ صالح أمام خيارٍ صعب؛ جدٌّ في نهايات عمره، وحفيدٌ في بدايات حياته؛ هل يتركه لمصيره الذي أجمعت إدارة المدرسة أنَّه غير صالحٍ للدراسة فيرعى في وديان وسهول القرية. أم يضحِّي؛ فيقوم بتربيته وتأهيله وهو المُدرِّسُ الذي ربى أجيالاً؟ الجَدُّ سيتنطَّح لهذه المهمَّة ويقرِّر معالجة حفيده؛ هذا العلاج الذي يستمر حتى يشفى، فيقرِّر بيع قطعة من أرضه في القرية ويبني له مدرسةً بعد أن أخبر حفيده أنَّ إدارة المدرسة، ولكونِه (عبقري)، فإنَّه يحتاجُ إلى مَدرَسةٍ خاصَّةٍ به كي تتحمَّل وتتَّسع عبقريته، ذلك مع مُدرسين خاصين مثل: الممثِّل نبراس ملحم بدور أستاذ مادة الرياضيات والممثِّل عدنان عربيني بدور مدرِّس مادة الفيزياء ومدرِّسين آخرين، حيث يستدعي المُخرج عبد اللطيف المصائب الواقعية وإن كانت من بنت خياله عسى أن يبعث في لقطته اهتزازات عصبية تكون مؤثّرِة ومحرِّضة على التفكير، فيطلب من حفيده أن يسجِّل في دفتر يومياته كل ما تُصادفه عينه من وقائع في الطريق مثل: الممثِّل مأمون الخطيب بدور مريض يعاني من ألم البواسير- ربَّما يكون من ألم وويلات الحروب، كأن لا شفاء منها، والممثِّلة رباب مرهج بدور المرأة التي سيضرُّها زوجها بضرِّةٍ بعد أن باع قطعة من أرضه ليتزوَّج بها- نلاحظ أنَّ الجدَّ باع أرضاً ليبني مدرسةً وهو الأستاذ الجامعي المتقاعد، فيما الزوج باع قطعة أرض ليتزوَّج امرأة ثانية- والممثِّل أحمد كنعان الذي يلبس قميص الشعراء عمر أبي ريشة وعنترة بن شدَّاد وسعيد عقل فيستعمل قصائدهم كسيف؛ يردِّدها بصوتٍ مرتفع لتقوم بنشر صورها الأخلاقية والسياسية كمحرِّض، أو كما "الجوقة" في المسرح اليوناني تكون صوت (الضمير) الجمعي، والممثِّلة تماضر غانم أم جميل مُربية الطفل صالح، والتي تقوم بإرضاعه الحليب ليس من صدرها؛ بل من بز العنزة التي تربيها وذلك باستعمال "رضَّاعة" الحليب البلاستيكية التي تكاد تلازم الحفيد صالح؛ هل هي إشارة لترميم مناطق من الذاكرة؟ أم لاستثارة فعل المص- الامتصاص لأنَّها تحولت إلى مركز جذب، إلى إحساس مهيِّج- هل هي قصدية غائية؟.. والممثِّلة راما زين الدين ابنة الجيران والتي يحبُّها صالح الحفيد- لا بدَّ من الحب، إضافة إلى الشجارات والعراكات بين أهالي القرية على الطريق والتي لا نهاية لها. كل هذه الوقائع وغيرها، والتي سيمتلئ بها دفتر الطفل الذي يتدرَّج في تعليمه حتى ينال الثانوية بدرجة عالية، ويحصل على منحة لدراسة الطب في فرنسا، ثمَّ يعود وهو يحمل إجازةً في طب الأعصاب؛ ستتحوَّل إلى رواية (الطريق) التي يطبعها الجدُّ ويهديها لحفيده في نهاية الفيلم.

 المخرج عبد اللطيف كما لو إنَّه يريد أن يقول إنَّ العبقرية موجودة في كل دماغ، لكن علينا ترويضها بالتربية، فيجمع أهل القرية للاحتفال بعودة حفيده، فلا إعاقة ولا عجز، ولكنَّه الكسل العقلي واللامبالاة، وربَّما جرثومة الخيانة التي تسكن ضمائر الكادر التعليمي فتُحوِّل الإنسان من بطلٍ في العلوم والمعارف والمعارك إلى خائنٍ لـ (العقل). والمخرج لطيف رغم كثرة الأفلام التي صنعها مؤلفاً ومخرجاً- وهي كلُّها عن بيئة ريف الساحل السوري- بدا حالماً ومبهوراً بالطبيعة، التي لم يقم بترتيب الفوضى الفطرية فيها، ولا بفكر شخصياتها، أو سلوكها إلى ما يتخطىَّ التاريخ والدولة، سيما وأنَّه ابن المدرسة السينمائية السوفياتية(السابقة)، إذ إنَّه لم يحقِّق لصورته ذاك الديالكتيك المرجو -ربَّما تجنباً للوقوع في المباشرة السياسية، الذي يولِّد الصدمة الفكرية، مع إنَّه حرٌّ في تكوين صورته، فيدمج الفكر بالصورة، أو يحرِّر الصورة من الفكر، مع ذلك فإنَّ الفكرة عنده كما شاهدنا كانت تحمل قلقاً أخلاقياً، قلقاً وجودياً. فكرة فلسفة رؤية الجد صالح حامل العلم والمعرفة بوصفها كينونة محضة واعية غيَّرت مصير الطفل. رغم ذلك؛ ورغم الدفقات الشعرية والشاعرية والتي تغرف من (جوانية) النفس بدت صورة الفيلم؛ لقطاته إجرائية- لا تحليلية. فالمريض، هذا الطفل صالح، عندما وُضِعَ على السرير بدا سليماً معافى، وهنا كنَّا نتوقَّع أن نشاهدَ أداءً تمثيلياً ذو طابع تغريبي، ملحمي؛ أن نشاهد تراجيديا تدهشنا، وأنَّ المؤلف هو سارد الصور فلا يترك خيوطه، أو خطوطه الدرامية غير متضامنة، فتقفز فوق المراحل الانتقالية- من دون تسلسلي زمني للصراعات رغم سلميتها- فالعراكات والمشاجرات التي كانت تحدث على الطريق وكان الطفل يدوِّنُها، كانت رغم محدودية رمزيتها لا معنى لها. هناك انقطاعات وانشطارات، وقد اكتفى عبد اللطيف عبد الحميد بمقولة الفيلم الرئيسة أن الغباء لا يولد مع الإنسان ولا الذكاء، بل كلُّ شيءٍ ممكن.

 كيف يكون ممكناً وذاكرتنا، لن نقول السياسية؛ بل الدرامية، محشوةٌ بهذا الكم المُرعب والمُخيف من دماء الضحايا- ضحايا مجازر الحروب المُفتعلة فوق هذه الأرض، وكأنَّها ليست دماؤنا، كأنَّها ماءٌ سُكِبَ وانداح فوق هذه الطريق ولا من أحدٍ يثأر للضحايا.