عبد القادر الشاوي و"التخييل الذاتي": أشبهني ولست أنا

بشير البكر
الإثنين   2022/11/28
بدلاً من أن تهزمه 20 سنة في السجن، ظل في خضم التجربة يتقدّم ويتراجع
كاتب روائي وناقد ولا يقف هنا، بل هو دائم الاشتباك مع مسائل، وقضايا سياسية، وثقافية، واجتماعية. وأفضل من قدمه باختصار، صديقه الأثير الناقد إبراهيم الخطيب، الذي وصفه بصاحب الصورة المتعددة، وهذا يعني التعددية داخل الفردية ذاتها، وهي مسألة ترتبط بالزمن والعمر العقلي. وهي كامنة في كل كائن، وهناك من يظهرها، بينما لا يريد بعض آخر إبرازها، وقد تحول أحوال المجتمع دون ذلك.

وبعدما ترك عبد القادر الشاوي، العمل الديبلوماسي، وكان آخر محطاته سفيراً للمغرب في التشيلي، بات شبه متفرغ للكتابة، ولذا يبدو غزير الإنتاج، فما أن ينتهي من عمل حتى يبدأ الآخر، وقد أصدر خلال العامين الأخيرين أعمالاً عديدة، رواية "مرابع السلوان" 2020 عن دار المتوسط، "التيهاء" في 2021، وهو من الكتابة التي يسميها هو "التخييل الذاتي"، وصدر عن دار الفنك، وهو كما يصفه "حكاية نفسه"، و"مديح التعازي" 2022 عن دار الفنك، وهو عبارة عن تخييل ذاتي أيضاً، يتناول مسألة الموت والموتى وعلاقتهم بالأحياء.

والتخييل الذاتي بالنسبة للشاوي مرتبط بالأفراد، كلما ازداد الإنسان تجربة وتعمق في تجارب الآخرين، اتسع خياله على آفاق وعوالم متنوعة مختلفة، ويتجلى ذلك بوضوح في كتابه "التيهاء"، الذي يطرح العديد من الأسئلة حول الكتابة التخييلية، خصوصاً المسافة التي تفصل الواقع عن الخيال. ووظيفة القارئ ليست بالضرورة التدقيق والتحقيق لفرز الأحداث الواقعية عن المتخيلة، فما يرجى البحث عنه هو الصدق الفني والأدبي، لا مدى تطابق المحكي مع الحياة الواقعية للكاتب، لا سيما وأنه يعترف بأن دليله في هذا الكتاب مكشوف، أي أنه كتب من دون تخطيط ولا ترتيب، ولم يكن أمام أسبقيات تدعوه إلى الاختيار. فكل ما كتبه حكاية لنفسه وسرد لعزلتها في الكتابة، ويستشهد بقول الكاتب مانويل البيرا "هذا أنا، ولست أنا، أشبهني، لكني لست أنا، لكن حذار فقد أكون أنا". وهنا قد يصاب المرء برعشة النرجسية مثلما كاد أن يحصل عندما تلقى رسالة بخط أدونيس العام 1970 بعدما نشر أول مقال في مجلة "مواقف" عن الشعر المغربي. ويحفل الكتاب بالمرويات الشخصية والشهادة على مواقف تاريخية، ومنها ما يسميه "المساومة أقصر طريق للعودة" عن طريق مطار عمّان إلى فلسطين، باستثناء محمود درويش الذي تمتع بالسلطة الشعرية.

ويبدو من "التيهاء" أن العمل على الذاكرة في كتابات الشاوي له مكانة خاصة وخصوصية، فهو استذكار أو إعادة صياغة لبعض المشاهد والصور التي تتشكل منها الذاكرة، وليس المقصود البحث عن وثيقة أو شهادة، وإنما ما بقي فيها من صور وتفاصيل وروائح وذكريات. وتشكل هذه العودة في أغلب الأحيان، وهماً مركباً بالوعي من مراحل سابقة، وهي ليست شريطاً يمكن للمرء أن يعود ليراه بعد زمن، بل تحتمل الزيادة والنقصان والتلوين. وهذا سبب من أسباب توجهه إلى الفن التشكيلي أحياناً، فتصبح الذاكرة هي الظلال ورسم ما تبقى. ويبدو أن الرسم يعين على ترجمة بعض الأفكار وهنا تكمن العلاقة بين التشكيل والكتابة.

يتداخل في غالبية نصوص الشاوي، الذاتي مع ما يولده من تداعيات مفتوحة تصبح في بعض الأحيان هي المتن الذي يحمل الفكرة، وتلك خصوصية يتميز بها هذا المثقف، الذي له حضور خاص في الوسط الثقافي المغربي منذ التسعينيات بعدمت خرج من تجربة طويلة في السجن دامت حوالي عشرين عاماً. وبدلاً من أن يهزمه السجن، فإنه ظل في خضم التجربة يتقدّم ويتراجع، لكنه أعطى الكتابة جل وقته، وفي كل ما كتبه حتى الآن تحضر التجربة الذاتية بوصفها رصيداً إنسانياً ثرياً. السجن بوصفه احتجازاً وعقاباً. أبواب تقفل وأخرى تفتح، ويولد شعور في الذات تتفتح على نحو غريب فيغدو السجن فضاء رحباً للتأمّل بلا حدود وبحُرية ومجابهة للذات. وحين يتحدث الشاوي عن السيرة الذاتية التي تأخذ مساحة أساسية في أعماله، فهو يعتبر أنها باتت جنساً أدبياً مذموماً في البلد الذي ظهرت فيه فرنسا، ويتعامل معها بحذر لأنها تبقى محركاً للالتباس الذي يضعها في مصاف التعبير الأقصى عن الألم الفردي بتطوره وتجدده.

في "مديح التعازي" نقف أمام تأمل الموت الأصغر والموت الأكبر حسب توصيف الشاوي، لاقتلاع شرّين من أقسى الشرور الهالكة للبشر: الموت والسجن. ويبدو أن عدم التفكير في الموت لا يلغي الموت، بل قد يكون نوعاً من مواجهة الموت. وهناك شعوب تفكر في الموت وتحتفل به، يخرجون موتاهم من القبور ويرقصون معهم. وبالتالي فإن الخوف من الموت العجز هو أكثر من الموت. ويرى أن التفكير في الموت عاطفة مثل بقية العواطف الفرح والحزن والقلق، وسواء فكرنا فيه أو لم نفكر، هو حاضر بيننا، ونحن نمشي في مسار الحياة الذي ينتهي بالموت. هناك بشر يخافون ويهابون مجرد سماع كلمة الموت، وهناك آخرون يتدربون عليه يومياً مثل المواطن التونسي عبد العزيز العمامي الذي بات على مشارف السبعين، وهو يعتقد أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ومتاع، ويعتبر القبر الصلة بين الحياة والموت، ويدخل إلى قبره المفترض الذي جهزه، من دون كفن ويتوسد التراب، ولا يعرف إن كان يهنأ في استسلامه الخالد بما يعلنه من أنه يتدرب على الموت، لكن المؤكد في ذلك أنه يقوم به بكل وعي لوجوده الدنيوي، وقد تجده بعد الاستسلام في خوف من موته الخاص، والخلاصة هنا دعوة لتجاوز المرء حالة التفكير بالموت.

ويبدو التدرب على الموت من الناحية الدينية، موتاً في الحياة، بالنظر إلى ما يكرسه في الذهن والوعي من تسليم واستسلام. وهو بذلك على مذاهب جميع الزهاد في أن دار الآخرة هي الأصل. فتصبح الحياة ميتات بالتدريج. وهو بذلك يسترشد بالكاتب محمد الماغوط الذي يصفه بصديقه الذي لا يعرفه، في قوله "إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هي ما يموت فينا ونحن أحياء". ولذلك يساجل ضد الانتحار في "التيهاء" حين يتحدث عن انتحار الكاتب الأردني تيسير سبول، ويعتبره من أسباب الوجود العصي على الفرد.

يعد "مديح التعازي" تأملاً مغرقاً في الموت، فللجسد روح كالبيت إذا نام خرجت وحين يستيقظ تعود، ولأنه لا يمكن تصور بقاء الموت في الوجود من دون مقابر، فإن الأمر لا يتعلق بتلك المساحة الجغرافية البيئية المعدة للتخلص من الجثث التي لا تكف عن الموت، وبالتالي لا يمكن تصور مقبرة من دون حفاري قبور وقوانين للدفن. ويضعنا أمام تجربة مغربية في تدبير المقابر، وإنتاج معرفة وقوانين تساعد على تعايش الأموات والأحياء "حقوق الإنسان تشمله حياً وميتاً".

تبدو الكتابة عند الشاوي حرة تماماً، هو يكتب من دون تكلف أو تخطيط صارم، ولذا يتقاطع في كل عمل من أعماله، الشعر بالرواية بالقصة بالفلسفة والتنظير والتأمل الصوفي. وتبدو ممارسة الحرية مع الكتابة نوعاً من تحرير الذات التي عرفت تجربة السجن السياسي في سبعينيات القرن الماضي، في وقت عاش فيه المغرب "سنوات الرصاص"، ورغم أن الشاوي سجل تلك التجربة في رواية "كان وأخواتها" التي كتبها في السجن، إلا أن ما لديه لا ينفد. ويظل في ذهاب وإياب بين الذات والموضوع، وبين ما حصل، ورجع إلى الداخل كصدى لتجارب خاصة.