التحكيم النسائي في المونديال..بلا جنس؟

رشا الأطرش
الثلاثاء   2022/11/22
المحكّمة الأميركية كاثرين نيسبت هي أيضاً أستاذة كيمياء (غيتي)
"نحن المشاركون في كأس العالم الحكام، لسنا مستغربين لوجود زميلاتنا الحَكَمات في فريق فيفا رقم 1، هم هنا عن جدارة واستحقاق، ليس لأنهم نساء، بل لأنهم يستحقون هنا المشاركة عن جدارة ولكفاءتهم في الملعب"...

في يوم عادي، كان هذا التعليق لإسماعيل الفاتح، الحكم الدولي الأميركي من أصول مغاربية، ليخضع للمسات تحريرية جذرية من أنامل أي صحافي عربي يُعدّ الخبر للنشر على هامش مونديال قطر 2022. التصحيح الأساس: نون النسوة التي سقطت من كل موقع كان لزاماً حضورها فيه. لكن التصريح جاء في فيديو، وفوق ذلك يحمل براءة الأخطاء البِكر. إذ ربما تكون "عربية" الفاتح جزءاً من السبب، وهو المغربي-الفرانكوفوني الذي وصل إلى الولايات المتحدة ابن 18 عاماً وتعلم الإنكليزية على كَبَر. لكن السبب الأهم ربما يكمن في طزاجة الحدث: تحكيم نسائي للمرة الأولى في كأس العالم للرجال. حتى اللغة لم تُحكم اعتيادها بعد.

ست نساء انضممن هذه المرة إلى فريق تحكيم المونديال: ثلاث مُحكِّمات، وثلاث مُساعدات تحكيم. أشياء كثيرة تقولها هذه الخطوة في واحدة من أكثر الألعاب الشعبية ذكورية في العالم، رغم تطور الأندية والفِرق النسائية لكرة القدم، إذ يبقى كأس العالم الرجالي ذا الحظوة والجماهيرية القصوى. أشياء كثيرة تقال هنا عن جنسانية (أو لا جنسانية) الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً. عن نظرة المُحكّمات أنفسهن لوجودهن المستجد في ملعب الرجال، كسُلطة وجِهةِ فَصل وحَسم. وعن حديدية توحيد المعايير، وما إذا كان ذلك قمة المساواة وتكافؤ الفرص، أم ظلماً للجسد النسائي الذي ينافس في المباريات الرياضية بمعايير خاصة به، لكن عندما يأتي الأمر للتحكيم، فعليه أن يكون مساوياً لجسد الرجل. وعمّا يعنيه كل ما سبق في الخطاب النسوي المعاصر...

بحسب المعلومات المنشورة، وَجب على المحكّمات النساء الست اجتياز اختبارات اللياقة نفسها مثل الحكّام الرجال، وقد خضعن لمعايير الأداء ذاتها مثل زملائهم الذكور. كأن جنس الجسد، الآن، وبعدما سُمح للنساء بتحكيم مونديال الرجال للمرة الأولى، يتوارى خلف الكفاءة، وهذا، من حيث المبدأ خبر جيد، لكنها الكفاءة التي يضع معاييرها الجسد الذكَر، ربما على اعتبار أن اللاعبين هنا ذكور، وعلى الحكام رجالاً ونساء مجاراتهم. ورغم ذلك، فإن هذه نقطة من المتوقع أن تجر كلاماً أكثر، من دون التفريط في الاغتباط بأن الجسد الأنثوي نافس الذكر في ملعبه وفاز، ولو كانت ست أجساد فقط من أصل 36 جسداً تحكيمياً.

الرواندية ساليما موكانسانجا، صرّحت لـ"بي بي سي سبورت"، بعد إعلان مشاركتها كمُحكّمة أساسية في مونديال 2022: "سيكون هذا شرفاً، في كرة القدم لا يوجد جنس، يجب أن يفهم الناس ذلك. القرار دائماً هو القرار، ويجب اتخاذه. لا يهم أن تكون امرأة هنا. المهم هو الأداء". إنه نفي الجنس ككل، من أجل أن تصعد الأنوثة وتنال الاحترام. وليس أي احترام، بل ذاك الذي بمثابة احترام القضاة في مسائل حياة وموت. حسناً، لم لا؟ ربما تكون هذه زاوية جديدة وإضافية لزخم نسوي في موقع قرار: المساواة عبر الحياد الجنسي. الشأن للمكانة التي تم تحصيلها بالاجتهاد والتصميم والمثابرة. ومن دون التخلي عن روافع "الكوتا" الجندرية والإثنية المشجعة على تحقيق مثل هذا الإنجاز بأفضل شكل ممكن، في 2022 كما في السنوات المقبلة، والتي من الواضح أنها تمت مراعاتها منذ هذه المرة الأولى.

واللافت في حكاية موكانسانجا، وهي حَكَم مع "الفيفا" منذ العام 2012، أنها حلمت منذ طفولتها بلعب كرة السلة بشكل احترافي، لكن الوصول إلى البنية التحتية لكرة السلة "كان صعباً"، كما تقول، وهكذا انتهى بها الأمر في التحكيم. وتؤكد أنها لم تندم أبداً، إذ قادها إلى كأس العالم للسيدات 2019، ودورة الألعاب الأولمبية طوكيو 2020، والآن مونديال قطر. التطور الجندري في تحكيم "فيفا" ومونديال 2022، جلب معه أيضاً قصصاً أخرى عن أقليات ومهمّشين، والاقتصاد والاجتماع والسياسة في الرياضة. فما بخلت به كرة السلة، جادت به كرة القدم.

وبالمثل، صرّحت الأميركية كاثرين نيسبت: "دُعينا جميعاً إلى هنا (قطر) لأننا جميعاً حكّام متماثلون، وعملنا كلنا بجد لنستحق أن نكون هنا، وهذه بالضبط هي مشاعرنا، فريق واحد". نيسبت (34 عاماً)، التي أمضت عقداً من الزمن تحقق التوازن بين وظيفتيها المتوازيتين، الكيمياء التحليلية وكرة القدم، اتخذت قراراً حاسماً العام 2019. فقبل أسبوعين من مغادرتها إلى فرنسا للعمل كمُحكّمة مُساعدة في كأس العالم للسيدات، استقالت من منصبها كأستاذة مُساعدة في جامعة توسون، للتركيز على تحكيم كرة القدم بدوام كامل. فمونديال 2026 للرجال سيقام في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وهي أرادت أن تكون جاهزة لتُحكّم في بلدها، لكن الخبر المفرح جاء مبكراً أربع سنوات. قرأت اسمها في حساب "فيفا" في "تويتر"، وهي الآن في قطر. تقول: "لم تكن لدي فكرة عما إذا كانوا سيسمحون للسيدات بتحكيم كأس العالم، لكني أردت أن أفعل ذلك. لقد أدركت في 2019 أنه من أجل المحاولة، سأحتاج إلى تكريس وقتي وجهدي في وظيفة واحدة".

لعله أحد أكثر نماذج الاختيار النسائي وضوحاً، بدءاً من الجمع بين التخصصات والاحترافات، على اعتبار أن إحداها (كرة القدم) ربما لا تجني كامل ثمارها... وصولاً إلى ذاك الإحساس العميق بالمجازفة والإثارة معاً لدى اتخاذ القرار بتكريس الذات للوظيفة الأقل حظاً في تمام التألق... ثم التألق الفعلي كنتيجة "مفاجئة" لكثير من الكد والإصرار والمخاطرة. حكاية نسائية كلاسيكية، لا سيما في عالم الرياضة والكرة، وبهذا القدر هي مثيرة للاهتمام... أضف إليها كل القراءات المتاحة الآن في الانترنت عن المُحكّمات في مونديال 2022: اليابانية ياماشيتا يوشيمي (36 عاماً) أول حكم أنثى على الإطلاق، والفرنسية ستيفاني فرابارت (38 عاماً) أول حكم امرأة تتولى مسؤولية مباراة في دوري أبطال أوروبا للرجال، وأدارت نهائي كأس فرنسا 2022، وفازت بجائزة أفضل حكم امرأة في العالم لثلاث سنوات متتالية منذ العام 2019، وغيرهما..

ومن المتوقع، بل المُنتظر بحماسة، قراءة تحليلات كروية بنَفَس جديد، عن فوارق النظرة التحكيمية بين الرجال والنساء، إذا ما وُجدت، في ضوء الحدث الأضخم في عالم كرة القدم... فهل موقع التحكيم هو الذي يعمل من تلقاء كفاءته وإعداداته، بمعزل عن شاغليه من رجال ونساء؟ وهل كل ما يقال عن نفي الجندر من أجل المساواة الجندريةن سيعمل بطريقة اختبارات اللياقة الموحدة للجنسين.. المضبوطة مسبقاً رجالياً؟ ولمن السلطة هنا فعلياً؟ 

كان رئيس لجنة التحكيم، بيرلويجي كولينا، قد قال في وقت سابق إن الحكّام الإناث لن يواجهن أي قيود على أسس دينية وثقافية أثناء إدارتهن للمباريات التي تشارك فيها دول تقليدية لجهة أدوار النساء، مثل إيران أو السعودية... وإن كان هذا تفصيلاً لا يستهان بما ستختزنه متابعته في الأيام المقبلة، من رمزية وتشويق، لكنها، في ضوء ما تحقق فعلاً والقطار الذي انطلق، ستكون إثارة من قبيل ما تقدّمه السينما حينما تخوض في كلاسيكيات الأدب.