المونديال لفهم الذاكرة... يوم بكى مشجعو البرازيل السوريون

أدهم حنا
الخميس   2022/11/17
يوم هُزمت البرازيل أمام المانيا
"على الذين نهاجمهم بعدوان، أن يفعلوا شيئاً يستحقوا فيه أن نهاجمهم بكل هذه القسوة" (توما الإكويني)

إنه العام 2014، سوريا فيه تعيش عامها الثالث من الثورة، والمونديال الأول في تاريخ الانتفاضة، والأقسى عليها. لم تكن الكهرباء بالسوء الذي هي عليه اليوم. كانت المقاهي كُلها مع الحدث، والبيوت أيضاً. وكأس شاي أو قهوة، أو صنع مأدبة منزلية، لم يكن همّاً. التلفزيون السوري أعاد لسكان هذه البلاد موجة بحث مضنية، لشراء أو الحصول على اللاقط الذي يُوصل بالتلفاز، يسميه السوريون (الأنتل، الأنتير)، خلاف حرف واحد يؤدي إلى المعنى نفسه في هذه البلاد. القناة الأرضية، شرّعت سرقة البث وعرضه عبر القنوات الأرضية. البعض رأى في هذا ثورية على رأسمالية العالم والقنوات الرياضية، والآخر شماتة وانتصار، والكثير لم يعنِهم سوى متابعة كأس العالم.

كان الليل حاكماً على أحلك مباريات الأرض حينها، البرازيل، ألمانيا. في العام 2014 لم يكن السوريون قد دخلوا عصر التكتيك. بالكاد يتذكر مواليد الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، أرقام الخطط. 442، 433، 352، 541. ولم يعرفوا ما يُسمى اليوم التحليل الخططي، ولا تكتيك الحركة من دون كرة، ولا شروحات مطولة تأتي من علماء الرياضة الغربيين مُترجمة أو مُعرّبة. لكن السوريين يتذكرون أساطير اللعبة بغرابة ما. عظَمة بيليه البرازيلي مثلاً، عظَمة مخزّنة من المقولات والصحف، لا من المشاهدة. في بحث استقصائي سألت فيه أكثر من 500 مُعمّر سوري، إن كانوا قد شاهدوا بيليه، فأجابوا كلهم بالنفي. علم النفس يشير في هذا إلى أمرٍ يبدو شديد الوضوح، ما يُسمى "ذكرى ساترة". فبيليه لا يُشكل سوى إبدال لكل ذكريات السبعينيات والثمانينيات السيئة، فريق البرازيل الذي لم يشاهده السوريون أبداً، هو ليس سوى ذكرى يتم تكريسها بعظَمة ومجد، كضد لكل ما عاينوه في بداية عصر التلفاز، وتم توريث هذا العشق للبرازيل من دون أي واقعية في تخزين الذاكرة جراء المشاهدة.... هذا ليس دليلاً على عدم أهمية البرازيل كروياً، بل فهم لفكرة تعظيم البرازيل من دون مشاهدتها. خلقت الذاكرة شيئاً لم ترَه، لتهرب من شيء رأته ولا تريد اكتناز حقيقته.


(دموع روماريو يوم أُبعد عن كأس العالم)

على أن السوريين شاهدوا رونالدو، رونالدينو، ريفالدو، روماريو، كارلوس، كافو... عبر "الجزيرة سبورت"، في سنين العرض المجاني. ما جعل لكل سوري فريق أوروبي أو أميركي لاتيني يختاره ويُحبه، ولاعبون ممجدون. للبرازيل سطوة في كل بقاع الأرض جماهيرياً، لفريق البرازيل وجود هائل في سوريا طبعاً. التلفزيون السوري ما فتئ يعرض فيديو لروماريو وهو يبكي لأنه لم يُستدعَ لكأس العام 1998، هذه الدموع كانت من البرومو لبرنامج رياضي سوري. التقط المخرجون دموع لاعبي العالم كلهم، ووضعوهم في هذا البرومو، لكن لم يعلق لدى السوريين سوى روماريو. اخترقت دموع روماريو، الوجدان السوري، وبعد حين دموع غادة شعاع، وهي تستمع للنشيد السوري، أثناء تقلّدها ذهبية أولمبية. المأساة عليها أن تكون حاضرة دوماً.

بكاء آخر خرق وجدان السوريين، بكاء رونالدو، في النهائي الذي بدأ ببكاء روماريو. زين الدين زيدان، بأصوله الجزائرية، خفف لدى السوريين من مشجعي البرازيل، قهر كأس العالم 1998. رأسيتان لامعتان من زيدان رفعتا مستوى العروبة والإسلام على حساب عشق البرازيل. الصحف السورية حينها جعلت كأس العالم شبه عربي. إنه زين الدين زيدان، هو من أوصل فرنسا إلى المجد. كبار السن أيضاً كثيراً ما اعترضوا على قصة رونالدو الشهيرة في مونديال 2002، لكنه حصل فيها على كأس العالم.

عصر الفرق (ريال، برشلونة، بايرن ميونخ) لم يسحب من جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات سحر فرق كأس العالم. يجذب البرازيليون جماهير الكرة من كل أنحاء الأرض بحركتهم، ومهاراتهم وفنيتهم العالية في المناورة، وما يسمى "الرقص مع الكرة". فرويد يستطيع الإجابة عن سبب تعلق الناس بهذا تحديداً، كونه يمثل "العشقوية الذاتية" بأعلى مستوياتها، الرياضي الذي يحترف رياضته بجسده، ويحولها إلى نوعية فنية عالية، الحركة، المرونة، تجاوز الخصم، ثم ينتهي الهدف برقصة. تميز البرازيليون في هذا. ملعب كرة القدم بالنسبة إليهم، درس في فرادة طبيعتهم، حتى بات أبطالهم شخصيات تُذكر لكل من يلمس الكرة، الاستدماج بالبطل، أقرب صيغة لنا نحتاجها، كل هذا يجعل للبرازيل سطوة.


(سِحر زيدان)

ألمانيا تبدو أقل شهرة، لكن لها جمهورها. أيضاً بدأ هذا التاريخ وإلى حد اليوم، يرتبط بمقولات تترجم من مقالات غربية ويرددها مذيعون عرب: إنهم الماكينات، أسماء لامعة لكنها لا تصل أبداً إلى مستوى أبطال البرازيل في سوريا.

عودة لمونديال 2014، كان عليّ أن أخرج بين الشوطين لأنتقل من مطعمٍ أتابع فيه المباراة، نحو منزلٍ لقريب لي لأتابع معه مأساة البرازيل. خرجت نحو شارع يضج بالمقاهي القديمة، لا يرتادها الكثير من شبان العشرينيات أو الثلاثينيات، أمام هذا المقهى أعمدة تستخدم لربط الدراجات الهوائية المصنوعة في الثمانينيات والتسعينيات، وغالبيتها تعود لرجالٍ يشاهدون، كل أربع سنوات، مباريات كأس العالم فقط، وما يدهش أن البكاء بدا حقيقياً أكثر من أي شيء. كان علي أن أفك جنزيراً يربط دراجة هوائية بعمود، لرجل دموعه تتقاطر على يدي. ورجل آخر يصرخ مطالباً، بأن يمتنع المقهى عن عرض الشوط الثاني وأن تجعله يكمل رأس التنباك بهدوء. قيل لي وقتها إن عجائز البلاد ورجالها ما فوق الخمسين، لم يقبلوا احتفالات الجماهير الألمانية في المقاهي، واتفقت المقاهي المتقاربة على تبادل الجماهير لإبعادهم عن بعضهم البعض. هذا لن يحصل يوماً في تاريخ المقاهي السورية في أي مباراة أخرى.

كان قهراً هائلاً لدى كبار السن أن يشاهدوا كل هذه القسوة. إذلال البرازيل لم يُشعر جماهيرها فقط بالسخط والكراهية نحو الألمان، بل تصريحات لاعبي ألمانيا ذاتهم، شعروا بهذا نحو شورله الذي أضاف هدفين في الشوط الثاني.. أنا أشجع ألمانيا، وما زلتُ أتذكر كرهي لقسوة الألمان، وكيف كان لي أن أقود خطواتي نحو ابن عمي الذي يشجع البرازيل لأواسيه. لكن لهذا ميزة جيدة، لقد تغير كل شيء من حينها، تحول الناس بطريقة أو بأخرى لتقدير جهود كرة القدم وجعلها أكثر علمية في الفهم. لم تعد أي ذاكرة ساترة تشفع للبرازيل، بل إعمال العقل هو الحل الوحيد. هذا شيء ننفر منه كُلنا. كان المونديال الأقسى في كل شيء، لأنه نبش ذاكرة الناس مرتين، كرة القدم لم تعد رقصاً ومهارة فحسب، بل تحتاج عقلاً، ومتعوية الجسد البرازيلية ليست بديلاً لبلاد تحترق. لم يقد البرازيليون ذاكرة ساترة هذه المرة لنا، لننسى آلامنا بل زادوها، لقد أعطت لجماهيرها مرارة مضافة لا أكثر. ولجيل انتظر من جيل امتلك ذاكرة ساترة، حقيقة مختلفة. كان أسوأ مونديال على الإطلاق. كان قاسياً.