محمد سلطان..الموسيقار الذي تبناه عبد الوهاب على غير العادة

أشرف غريب
الثلاثاء   2022/11/15
محمد سلطان بين زمنين
 شاء لي القدر أن أزور الموسيقار محمد سلطان، قبل أربعة أسابيع من رحيله مساء الأحد. كان ذلك بصحبة الموسيقار العراقي هالكوت زهير، وفي المنزل نفسه المُطل على نيل القاهرة حيث التقيته للمرة الأولى قبل ستة وثلاثين عاماً. وبين اللقاءين مشوار طويل من ذكريات جمعتنا، وتداعيات كثيرة مرت في خاطري وأنا استقبل بوجل خبر وفاة الموسيقار الكبير عن خمسة وثمانين عاماً. في اللقاء الأول، كان باشا عطوفاً، حيوياً ومتدفقاً وهو يحتضن قدرات شاب صغير يخطو أولى خطواته في عالم الصحافة. يومها –ومن دون طلب مني، لكن بترحيب جارف– عرفني على الموسيقار محمد عبد الوهاب وعلى قائد الفرقة الماسية أحمد فؤاد حسن والشاعر الغنائي عمر بطيشة، إذ بادر بالاتصال بالثلاثة وقدمني لهم بعبارات مشجعة سهلت عليّ النفاذ إلى عالم الفن الرحب. ويوم التقيته للمرة الأخيرة، قبل شهر، كان شاحب الوجه، نحيل القوام، فاقداً لكل ما كان يتمتع به من حيوية وتدفق. والأهم أنه كان فاقداً لتركيزه، وليس على لسانه سوى إسمَين اثنين فقط: محمد عبد الوهاب وفايزة أحمد. ولا عجب، وهما الشخصان اللذان غيّرا مجرى حياته وقاداه إلى تلك المكانة الكبيرة التى ظل يتمتع بها طوال وجوده في الساحة الفنية.

كان ابن الإسكندرية المولود في تموز/يوليو 1937، سليل أسرة أرستقراطية يعمل والده حكمداراً للشرطة، بينما والدته ربة منزل تجيد العزف على البيانو والعود، شأن الكثيرات من بنات الطبقة الراقية في تلك الفترة. وأورثت الأم فتاها حب الفن، تمثيلاً وموسيقى، فنشأ عضواً في فريق التمثيل بالمدرسة، وعازفاً بارعاً على العود، له بعض التجارب الواعدة في عالم التلحين وهو لم يزل بعد في الرابعة عشرة من عمره، لكن الوالد عارض بشدة مَيل الإبن إلى الفن، وأصرّ على أن يكمل سلطان تعليمه الجامعي، إما في الكلية البحرية، أو في كلية الحقوق حيث منبت رجال السياسة والحكم في ذلك الوقت. وحدث أن استأجر الموسيقار محمد عبد الوهاب "شاليه" صيفياً بجوار شاليه الأسرة في منطقة جليم بالإسكندرية، فانتهز الصبي ابن الخامسة عشرة الفرصة وطرق باب عبد الوهاب مسمّعاً إياه عزفه وألحانه، فما كان من الموسيقار الكبير إلا أن ذهب معه إلى والده وأقنعه بصدق موهبة ابنه وضرورة تشجيعه على ممارسة هوايته، وأنه قرر أن يتبناه موسيقياً على غير عادة أن يتبنى ملحن ملحناً آخر، فوافق الأب على مضض إرضاءً لعبد الوهاب، لكن بشرط أن يكمل سلطان دراسته الجامعية أولاً، وهو ما تم بالفعل. ولولا هذه الزيارة الوهابية لربما كبت الوالد تلك الموهبة العظيمة التي تمتع بها محمد سلطان وضاعت علينا ذائقة موسيقية شديدة التفرد والخصوصية.


(محمد سلطان وفايزة أحمد مع ولديهما طارق وعمرو)    

المدهش في الأمر أن الجمهور تعرف أولاً على محمد سلطان الممثل، حينما شارك منذ العام 1963 في أكثر من فيلم مثل "عيلة زيزي" للمخرج فطين عبد الوهاب، و"من غير ميعاد" إخراج أحمد ضياء الدين. وللمصادفة، فإن الفيلمين كانا أمام نجمة تلك الفترة سعاد حسني، في حين كان سلطان يشق طريقه بصعوبة في عالم التلحين وسط أساطين المهنة، محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش ومحمد الموجي وبليغ حمدي، بالتزامن مع بدايات موسيقار آخر هو حلمى بكر، ومن هنا كانت الصعوبة. صحيح أن الجُمل الموسيقية عند محمد سلطان تميزت بالرشاقة والشياكة الموسيقية والبُعد من الاستعراض النغمي، بخلاف بقية منافسيه، إلا أنه كان بحاجة إلى صوت قوي راسخ، يحمل ألحانه ويحلق بها بعيداً، ولم يكن ذلك الصوت سوى القديرة فايزة أحمد التي آمنت بموهبته وبشخصه، بل وأحبته حباً جارفاً وسعت بنفسها إلى الزواج منه. هذه الزيجة التى استمرت سبعة عشر عاماً وأثمرت ولدين (طارق وعمرو) يعملان الآن في مجال الطب بفرنسا، وأثمرت أيضاً عشرات الألحان الخالدة التي صنعت اسم محمد سلطان وأبقت على نجاح فايزة أحمد كواحدة من أصوات الصف الأول في عالم الغناء.

فحينما كانت السيادة الموسيقية للأغنية الطويلة، زمن أم كلثوم وعبد الحليم ووردة وشادية، مع ذيوع الحفلات الغنائية العامة، كانت فايزة أحمد حاضرة بألحان محمد سلطان الطويلة مثل: تعالى شوف، خليكو شاهدين، غريب يا زمان، يا ما انت واحشني، أحلى طريق، لا تدخلي، علمتني الدنيا، أيوة تعبني هواك، وغيرها. وحينما أطلّ زمن الأغنية السريعة مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، كانت ألحان محمد سلطان الجسر الذي عبرت به فايزة أحمد إلى آذان أجيال جديدة لم تكن تميل إلى الأغنية الطويلة، فغنت فايزة: بكرة تعرف، حبيتك وباداري عليك، دنيا جديدة، على وش القمر، وغيرها.. صحيح أنّ لمحمد سلطان مع صوت فايزة أحمد محاولات مبكرة لتقديم الأغنية القصيرة على النحو الذى سمعناه في أغنيات مثل: مال عليا مال، ياما يا هوايا، لكن أغنيات نهاية السبعينيات، تميزت مع قصر مدتها بسرعة إيقاعاتها وحداثة توزيعها الموسيقى، ومن ثم اجتذبت لفايزة آذاناً موسيقية جديدة فيما كانت الفرق الغنائية، أمثال "الأصدقاء" و"المصريين" و"فور إم" تسيطر على أسماع الجماهير.

غير أنه ليس من الإنصاف اختزال مشوار محمد سلطان في تجربته العريضة مع فايزة أحمد، فقد لحّن لهاني شاكر روائعه: لو كنت غالي، حكاية كل عاشق، ومشتريكي، وغيرها، ولسميرة سعيد: الحب اللي انا عايشاه، الدنيا كده، حبيبي بيحبني، ولميادة الحناوي: قدام عينيك، آخر مرة، ح أفكرك، ولسعاد محمد: أوعدك، ولمحمد ثروت: حاسب على قلبي... كما قدم محمد سلطان للساحة الغنائية العديد من الأسماء المهمة، أمثال مدحت صالح، نادية مصطفى، هيام هلال، وغيرهم، وكان من المفترض أن يغني له المطرب عبد الحليم حافظ أغنية "أحلى طريق في دنيتي" لكن رحيل العندليب العام 1977 حال دون ذلك، فذهب اللحن إلى فايزة أحمد.

ولمحمد سلطان تجارب عديدة في وضع الموسيقى التصويرية للأفلام مثل: المطارد، الحلال والحرام، عصر الحب، التوت والنبوت، النمر والأنثى، الراقصة والسياسي، يا عزيزى كلنا لصوص، وسمارة الأمير. كما كان له إسهامه في الدفاع عن حقوق زملائه كرئيس لجمعية المؤلفين والملحنين المصريين لأكثر من دورة انتخابية، ولم يُقعده عن الاستمرار في المنصب سوى تقدم العمر به واستسلامه لأمراض الشيخوخة.