سيّدَة المونديال... سيّدَة العالم

فوزي ذبيان
الإثنين   2022/11/14
من أعمال احمد البحراني في قطر
تراني كل أربعة أعوام أتسيّد العالم عن بكرة أبيه. تتطاول القامات لمتابعتي، تلتفّ الأعناق لملاحقتي وتصدح الحناجر بعلي الأصوات عطفاً على انحناءاتي، فتتكدّس النظرات فوق انسيابي وتترصد نأمة حركاتي العيون.

أنا المستقيمة في سَيْري، الصاعدة، الهابطة، الملتفّة الملتوية والتي يتصارع على احتوائي كل أهل الأرض. أتلقّفُ ركلات اللاعبين كقُبل ملتهبة، كاحتضانات، كمداعبات فوق السرير الأخضر الشاسع الفسيح. لا هوية ثابتة لي... لا جنسية، لا جندر، لا لغة، لا لون ولا عقيدة... صيحات الجماهير عقيدتي، وكلماتي هي تلك الهتافات التي تزيّن وجه الكوكب بغامر الفرح والسعادة والحبور.

أنا مثل الكوكب مستديرة، أما المجرة التي تحويني فهي تلك القلوب التي تنبض على وقع سفري اللامتناهي داخل الشباك التي إذا ما لامستها تراني أمسّ مشاعر الملايين.

ها أنذا... أعدو داخل أزقة الرِيّو وفوق ساحات نابولي، أتباهى باستدارتي أمام إهرامات مصر وفوق سهوب المغرب الفسيح وبرج إيفل وساعة بيغ بن وشلالات نياغارا وملاعب المكسيك وألمانيا والأرجنتين. أتدحرج فوق الربع الخالي وغراند كانيون وسور الصين العظيم، تراني أجتاز غابات أفريقيا وطهران الحزينة ورامبلا برشلونة وتقسيم اسطنبول والضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، لأستقرّ اليوم في قطر بكل فخر واعتزاز وانتشاء.

منذ هزّي الأول للشِباك عند الدقيقة التاسعة عشرة من بدء المباراة الأولى في تاريخ المونديال في أوروغواي 1930، بواسطة الفرنسي لوسيان لوران في مرمى المكسيك، وأنا أعدو راسمة خريطة الإنفعالات والنظرات والحماس... خريطة الفرح والدموع ولهج الألسن وتهدجات القلوب. أحمل صيحات المشجعين بجوفي كحبلى منذ عشرات السنين. ترونني عبر نوافذ بيوت الصفيح في ضواحي المدن الكبرى، وترونني أيضاً عبر نوافذ الأثرياء، لكني أبقى النافذة الكبرى التي تترقّب عبرها العيون شكل العالم وهو يعدو ببهجة وحرية وسخاء.

سبحاني ما أعظم شأني وقد تحقق لديّ منذ ثلاثينات القرن المنصرم أن العالم يردد خلفي: أنا أعدو، إذن أنا موجود!

لا الملل ينال منّي ولا الروتين يعتريني... لا حساب المراهنات ولا لعب المصارف القميء، أنا سيدة قدري بحزم، بل تراني وعلى غفلة من المحللين الرياضيين والمدربين واللاعبين، أرسم أقدار الآخرين. أعدو وأعدو في طول العالم وعرضه، فلا ألتقط أنفاسي الأخيرة، بل ترى عزف لهاثي يلهب لهاث العالم أجمعين.

سبحاني ما أعظم شأني و"يا لخصوبة اللامُتوقّع" حيالي كما يشهد عليّ تاريخي في هذا العالم المجنّح عبر طيراني السريع، فالسماء ليست محسومة عندي ولا الأرض إذ لا مكان يحوي انتشائي أو يقدر أن يلمّ شتاتي البديع. أنا الأمكنة، أنا الأنفاس المتهدّجة، أنا القلوب وأنا الصدور المندفعة وأنا تلك الركلات التي تجعل الكوكب كله يهبّ بزخم الحياة كل أربعة سنين.

المكان في حضرتي يكفّ عن أن يكون غُفلاً بل تراه يصير أقرب إلى الزحمة التي تضجّ بالحياة، يصير المكان بمعيتي أقرب إلى استشراء الزوايا والساحات والأسطح والشرفات والجدران التي ترسمني كهالة نور فوق الجبين. أعتدّ بنفسي إلى حدّ المغالاة، إلى حدّ المباهاة وإلى حدّ التواضع النبيل، فحريتي تنبثق من ذاتي فأقرأ مصيري في مشهد غير متوقّع... في ركلة جزاء، في تحايل الأقدام على الأقدام، في ضربة كورنر أو في شردة حارس المرمى المسكين.

أفرح لفرح المنتصرين وأحزن لحزن الخاسرين، لكني في كل الأحوال أبقى متحف الخيال، مستودع الآمال وأبقى الحقيقة التي تتجلّى عبر اختلاط اللغات ودفق الحناجر والأجساد والعيون المتربصة بالشاشات وعبر دموع الفرح ودموع الحزن ودموع الندم وتلك الدموع المؤجلة إلى حين.

لا الحرص يعتريني ولا الظن يداخلني، أنا المُتوّجة بتاج العالم ولؤلؤ ولاء البشرية لي، فأنا نَصّ العالم الذي تخطّه الأقدام وأنا الريشة التي ترسم استدارة القلوب من حولي وأنا حاجة الكوكب إلى الشغف والحنين. بالفطرة، أنا الحس المُشترَك، اللغة التي أجمَع عليها العالم... أنا الوثيقة المتدحرجة داخل الملاعب والأفئدة والعيون والتي قد وقّع عليها الجميع. أتجاوز كوني تلك الحركة التي تعلنها صفارة بداية المباراة، أو الجمود الذي تعلنه صفارة نهاية الشوط الثاني أو الوقت البديل، فالكل قد أجمع بأني تلك اللحظة التي لا يغمرها ليل ولا يطويها أمس قريب أو ماض بعيد.

لا تخوم تحدّ فضائي أنا التي أمدّ المدى أمام المشاعر والعيون والأيدي والقلوب. لا نظرات تعمل على ترتيب حركاتي أنا التي تسوّي نظرات الآخرين... أعدو بزخم، أعدو بفرح، أعدو بحرية إلى أن يصرخ الكوكب: غووول!

أتأمّل وجوه الناس برفعة ألتقط أنفاسي للحظات قليلة لأعيد بعدها ترتيب مشهد كوكب الأرض بما يخالف ما يمور في صدره من شؤم وبؤس وحروب وضيق. أنا الكرة... أنا سيدة المونديال وسيدة العالم أجمعين.    

(*) مقالة أولى ضمن سلسلة مقالات، تُنشر تباعاً على هامش كأس العالم 2022 في قطر.