...وصاح عرفات بكلينتون: لا أوقّع وثيقة تحوي "جبل الهيكل"!

بشير البكر
الإثنين   2022/11/14
عرفات في بيروت 1982 (غيتي)
حين رحل ياسر عرفات، في 11 تشرين الثاني2004، كان وحيداً. وصودف يوم وفاته عطلة رسمية في فرنسا لأجل ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى. إلا أن الحالة بدت أقرب إلى عيد جميع القديسين في الأول من نوفمبر، من أجل تكريم كل القديسين المجهولين، الذين لم تسجل أسماؤهم في الدفاتر الرسمية. ربما كان الإحساس الأقوى هو أن عرفات واحد من هؤلاء. وما يبعث على تطويبه بين القديسين، الطريقة التي مات فيها، اغتيالاً بالسم البطيء، وأسلم الروح في مشفى فرنسي، وسط تواطؤ وتعتيم متعمد على حقيقة من دبر الأمر، ومن نفذ، رغم أن كل شيء مكشوف، ولا يحتاج سوى الإفراج عن التقرير الرسمي الذي ظل سرياً حتى اليوم. كان قاسياً رحيل هذا البطل وحيداً، في ذلك اليوم الماطر والعاصف على أرض غريبة، وحيداً بلا أهله ورفاقه وشعبه، وبعيداً من الأرض التي أفنى حياته ليراها حرة ويرفع عالياً علم استقلالها. لحظة تلخص الحزن وتعني تنكيس كوفية "الختيار"، واغتيال الثورة وشحنها في طائرة باتجاه رام الله ليتم دفنها هناك.

هاتفني صديقي الفلسطيني سعيد كيوان، كي نذهب لوداع جثمان أبو عمار، وعلى الفور وافقت على الاقتراح، انتظرته ومر عليّ بسيارته، وفي الطريق انتبهنا أننا لن نتمكن من المشاركة في مراسيم الوداع، داخل المطار العسكري الفرنسي، فقد قرر الرئيس الفرنسي حينذاك جاك شيراك، أن يقيم جنازة دولة لصديقه الزعيم الفلسطيني، وجرى تحديد المشاركين ووجهت لهم دعوات رسمية. وبالتالي هناك بروتوكول رسمي فرنسي، وليست مجرد جنازة يتم توديعها أو تشييعها إلى المقبرة. تساءلنا صديقي وأنا عن جدوى قدومنا، وسرعان ما بات السؤال بلا أي معنى، حينما رأينا مئات الناس يتدفقون باتجاه المطار، وهم يحملون الأعلام الفلسطينية وصور الرئيس عرفات. هؤلاء جميعاً لن يدخلوا المطار، ولن يسمح لهم الأمن حتى بالاقتراب منه، لكنهم جاؤوا مع ذلك ليودعوا الزعيم، وسرنا معهم فوجدنا أنفسنا بعد قليل وسط سيل بشري كبير بالآلاف، من النساء والرجال العرب والفرنسيين مع جنسيات أخرى.

وضعني الحشد البشري أمام حالة كنت أدركها من قبل، لكني لم أرها مجسدة بذلك الوضوح. كان الحشد يعبّر عن جمهور فلسطين الفعلي، الذي تكوّن في فرنسا الستينيات بجهود مناضلين فلسطينيين وعرب، منهم الشهداء محمود الهمشري وباسل الكبيسي وعز الدين القلق، واستمر يرفع علم فلسطين وصور عرفات والقدس، ولم يتسرب إليه الإحباط رغم أن الذين تولوا تمثيل فلسطين بعد مقتل عز الدين القلق، الدكتور في الكيمياء من جامعة بواتييه الفرنسية على يد جماعة أبو نضال العام 1978، قطعوا صلتهم بالتجمعات الفرنسية والعربية، التي كانت تشكل قوة تضامن كبيرة مع فلسطين، وتحولوا إلى بيروقراطيين يتنعمون بالامتيازات الدبلوماسية. لكن هذه التجمعات لم تحل نفسها وبقيت حاضرة، وعبّرت عن ذلك بالتظاهرة الكبيرة التي نظمتها بمناسبة زيارة عرفات الرسمية إلى باريس واستقباله رسمياً في قصر الاليزيه من قبل الرئيس فرانسوا متيران العام 1988، وتراجعت هذه التجمعات وباتت ضعيفة بعد اتفاق أوسلو.

من بين المشاركين في تشييع الرئيس عرفات، عجائز، رجال ونساء، من الجيل الأول للمهاجرين المغاربة والجزائريين والتوانسة، جاؤوا لوداع الزعيم. جهزوا الصور والأعلام في منازلهم، وسارعوا كي يعيشوا هذه اللحظة التي كانت خاتمتها نحيباً جماعياً عندما حلّقت الطائرة التي أقلت الجثمان في الأجواء. وكان الجميع يدرك أن هذه رحلة عرفات الأخيرة. بل لحظة سقوط جمرة ساخنة في جوف كل منهم حزناً على موت الكبير، الأب، والقائد الذي حمل راية فلسطين من معركة إلى أخرى ومن منفى لآخر، وسقط قبل أن يرفعها على أسوار القدس.

المرة الأخيرة التي التقيت فيها ياسر عرفات، كانت في باريس صيف العام 2000، وكان عائداً من الولايات المتحدة بعد فشل محادثات السلام بينه وبين إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي. وفي حينه، كانت قد انطلقت حملة إعلامية كبيرة ضده، أميركية إسرائيلية، بهدف تحميله مسؤولية فشل المباحثات، وتدفيع الشعب الفلسطيني ثمن الفشل. لم يكن الرئيس الأميركي بيل كلينتون يتحلى بالشجاعة الكافية، كي يعلن عمّن يتحمل كامل مسؤولية الفشل، الأمر الذي سهّل على باراك رميها على ظهر عرفات، وكان أبو عمار يدرك أنه لعب الورقة الأخيرة التي كانت بيده، وقرر السير في طريق تحدي الإدارة الأميركية ومحاولة التطويع الإسرائيلية. فقد كنت تلك الجولة من المفاوضات مفصلية وكان المطلوب منها أمرين، الحصول على تنازلات فلسطينية جوهرية وتوقيع عرفات عليها. والثاني تدجين عرفات وحرقه نهائياً كي يسهل إبعاده عن المشهد لاحقاً والإتيان بوكلاء فلسطينيين بزعم أنهم ينفذون الاتفاق مع عرفات الذي يصبح بلا دور. وكان عرفات مدركاً لهذا المخطط، ولذا كان غاية في التوتر والانزعاج، وفي لقاء مصغر حصل معه، تحدث عن أسباب فشل القمة التي دعا لها كلينتون قبل نهاية ولايته الثانية، واستغرقت أسبوعين في الفترة من 11 إلى 25 يوليو/تموز 2000، وانتهت من دون اتفاق في لحظة حرجة، حيث كانت علمية السلام تواجه استحقاق نهاية أيلول/سبتمير كأجل أخير للبت في الموضوعات المعلقة من اتفاق اوسلو، وخصوصاً مصير القدس واللاجئين. 

وبعد ثمانية أيام من بدء المباحثات، اندلعت إحدى أعمق الأزمات حول مسألة القدس، ناقشوها بعمق، وبدا واضحاً أنها أكثر العناصر تفجراً في المفاوضات المعقدة. ومما رواه أبو عمار في تلك الجلسة الخاصة، الخلاف حول المسجد الأقصى الذي كان يرد في وثائق المباحثات تحت اسم "جبل الهيكل". وفي كل مرة احتجّ عرفات على التسمية، ردّ عليه كلينتون بأنها شكلية، حتى انفجر عرفات، وقال إنه لن يوقع على أي وثيقة يرد فيها مصطلح "جبل الهيكل"، ولن يضع على عاتقه هذا المسألة، وليست لديه أي ضمانة بأن الاسرائيليين لن يهدموا الأقصى، ويبنوا الهيكل المزعوم، ويتخذوا من توقيعه ذريعة. وأضاف عرفات إن الأقصى ليس هيكل سليمان، وإذا كان الهيكل موجوداً ذات يوم، فهو لم يكن في هذا المكان. وردّ عليه كلينتون بغضب: "أنا سمعت منذ طفولتي من راعي كنيستي أنه كان هناك معبد يهودي، وربما لهذا السبب حول المسلمون الموقع إلى مقدس عندهم". لكن عرفات ظل مصرّاً على موقفه وروايته. ورفض المقترحات الأميركية والإسرائيلية بوضوح، لأنها تنتقص من حقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين في المدينة المقدسة، التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية. واعتبر أبو عمار أطروحات الإسرائيليين بشأن القدس خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح من جهة، لكنها من جهة أُخرى، مشوهة وخطرة جداً، لا سيما الحديث عن تقاسم السيادة على ما فوق أرض الحرم القدسي الشريف وتحته. واتهم الإسرائيليين بالتخطيط لهدم المسجد الأقصى، وبتحويل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى حرب دينية.

وبحسب باراك، فقد قدم كلينتون، فجر 18 يوليو، اقتراحاً أميركياً تحدّث عن سيادة الفلسطينيين في الحي الإسلامي في البلدة القديمة بالقدس، مع مكانة "أمانة" لعرفات في المسجد الأقصى، لكن عرفات لم يرد على المقترح. ولفت إلى أن كلينتون عرض تأجيل ملف القدس، إلا أن باراك عارض معلناً أن "الموضوع يتعلق أيضاً بملايين المسلمين، وليس فقط بالفلسطينيين"، بحسب زعمه. وبحسب رواية باراك، فإن الرئيس الفلسطيني الراحل أصرّ على عدم التنازل عن أي من المطالب الفلسطينية.

وتأكد الرئيس كلينتون، عبر لقاءاته اليومية الثنائية والثلاثية الطويلة، من أن قضايا الخلاف المدرجة في جدول الأعمال شائكة وحساسة، ولها أبعاد رمزية عند الطرفين، وخصـوصاً قضيتا القدس واللاجئين، وأن قدرة باراك وعرفات على التصـرف فيهما محدودة، وليس في إمكـان أي منهما تقـديم تنازلات تقرب الواحد منهما من الحدود الدنيا التي تلبي قناعة الآخر وتحقق له أهــدافه الاستراتيجية، وتمكّنه من تمرير الاتفاق في إطار مرجعيته الرسمية والشعبية.

وعلى صعيد الشكل، ورغم كل ما بذله كلينتون والوفد الأميركي، بقيت الأجواء متوترة بين الوفدين، ونادراً ما جلس كلينتون وباراك وعرفات معاً في غرفة مغلقة. وفي مرة، جلس عرفات وباراك على جانبي وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، في غرفة الطعام، وطوال المساء لم يتبادلا كلمة واحدة.

بعد ذلك بوقت قصير، اندلعت الانتفاضة الثانية بعد زيارة ارئيل شارون الاستفزازية إلى المسجد الأقصى، وكانت بداية العد العكسي لاغتيال الزعيم، وهذا أمر سجل بعض تفاصيله كاتب سيرة شارون، الصحافي الإسرائيلي ديفيد لانداو، في كتابه "أريك: حياة ارئيل شارون".