يوناس كاربينيانو لـ"المدن": أن تكون إبناً لعائلة مكرّسة للجريمة؟

محمد صبحي
الأحد   2022/11/13
ما أثار انتباهي هو التأثير الذي أحدثته المافيا في المجتمع'. المخرج يوناس كاربينيانو
عُرض الفيلم الأول ليوناس كاربينيانو، "البحر المتوسط"، لأول مرة أمام الجمهور في نسخة 2015 من مهرجان كانّ السينمائي. منذ تلك اللحظة، بدأت المراجعات تتحدث عن موهبة شابة تمكّنت من الجمع بين بعض الاهتمامات المركزية لحركة الواقعية الجديدة مع سمات أخرى للحداثة السينمائية. هذه القصة حول اثنين من المهاجرين الأفارقة وصلا مؤخراً إلى إقليم كالابريا الإيطالي، بعد مشقّة عبور الحدود ومواجهة جميع أنواع المخاطر؛ استحضرت الثيمات الكلاسيكية للسينما الإيطالية في فترة ما بعد الحرب، وهو إحساس عزّزته مشاركة ممثلين غير محترفين من سكان المنطقة التي صُوّر فيها الفيلم: مدينة جويا تاورو، في إقليم كالابريا.

في هذا الفيلم، بالإضافة إلى الممثل الجديد قدوس سيهون، من بوركينا فاسو؛ شارك طفل إيطالي إسمه بيو أماتو في عدد قليل من المشاهد. بعد ذلك بعامين، ظهر أماتو مرة أخرى على الشاشة كبطل مطلق في العمل التالي للمخرج، "كيامبرا" (2017)، إبناً لعائلة من الغجر الرومانيين يعيشون في المدينة نفسها، في فيلمٍ لم ينتجه سوى مارتن سكورسيزي بنفسه. الروابط بين الأفلام لا تنتهي عند هذا الحد. في "كيامبرا"، عاود سيهون الظهور، في دور الصديق البالغ الأكثر قرباً وتحمّلاً لأماتو اليافع، مستشاراً في مواجهة شدائد مهنته الناشئة في عالم الجرائم الصغيرة، والآن، في فيلم كاربينيانو الجديد، تلتقي البطلة مع المراهق أماتو في بعض المشاهد الدرامية ذات الصلة.

"إلى كيارا"، المعروض ضمن فعاليات النسخة 27 من مهرجان السينما الأوروبية في بيروت، يختم ما يشبه ثلاثية سينمائية غير رسمية مخصصة لمدينة جيويا تاورو الساحلية، التي تملك ميناءً مهماً وأحد أكثر الممرات البحرية ازدحاماً في العالم، فضلاً عن كونها مركزاً مهماً لتجارة المخدرات العالمية. تنتقل كاميرا المخرج عبر أحياء المدينة الأكثر ثراءً في ملازمتها الحثيثة للبطلة كيارا، الفتاة ابنة الـ15 عاماً التي تكتشف ذات يوم أن عائلتها جزء من ندرانغيتا، مافيا كالابريا المرعبة.

كيارا تلعب دورها المراهقة سوامي روتولو، التي قابلها يوناس كاربينيانو، مع بقية أفراد عائلتها، قبل سنوات. هي عضو جديد في طاقم الممثلين غير المحترفين الذي يسكن البوتقة الإبداعية للسينمائي الأميركي- الإيطالي، ويعطيه جرعة من الطبيعية الرائعة. بنبرة تقترب أحياناُ من سينما التشويق والإثارة، يصف "إلى كيارا" انهيار العالم كما تعرفه مراهقة، ويقدّم قصة نضوج ومقاومة وإعادة اختراع محتملة في مواجهة محن تلك الكارثة المسمّاة العائلة. فيلمٌ فيّاض وآسر ينضح بقوة سردية ودرامية، وطبيعية، ومصداقية، وإنسانية معقّدة وبليغة.

 

في حديثه مع "المدن"، من إيطاليا، حيث عاش لأكثر من عقد من الزمان؛ يصف كاربينيانو (1984، نيويورك) الجذر غير العادي لأول أفلامه الطويلة ويوضّح بالتفصيل تكوين عائلته وأصوله و الروابط الجغرافية والثقافية. "عندما انتقلت إلى جويا تاورو في عام 2010، لم أتخيل أبداً أو أخطط لعمل ثلاثية أو أي شيء من هذا القبيل. لم تكن هذه هي الخطة. لقد بدأت ببساطة في دراسة وتفحّص المنطقة وسكانها في لحظة خاصة جداً، لأنني كنت مهتماً جداً بذلك.

ولدتُ في الولايات المتحدة وأنا من عائلة أميركية أفريقية، من ناحية، حيث وُلدت والدتي في بربادوس واستقرت في الولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى، والدي إيطالي؛ ولدي عائلة هنا في إيطاليا وقضيت سنوات عديدة من طفولتي ومراهقتي في روما. لذا فأنا لست إيطالياً أميركياً بالمعنى الدقيق للكلمة كما يقولون. لا يوجد العمّ توني أو ابن العمّ جوني أو أي من تلك الشخصيات التي غالباً ما تراها في الأفلام. هذا يعقّد قليلاً المفهوم السائد عني كـ"أميركي إيطالي". بسبب جذوري الإيطالية، هناك قضايا لطالما جذبتني، كما أن جانبي الأميركي الأفريقي يجذب الانتباه هنا في إيطاليا".


- كيف انتهت مهنتك كمخرج بالتركيز حصرياً على إيطاليا، وبشكل أكثر تحديداً على مدينة جويا تاورو؟

عندما حدثت الاحتجاجات العرقية في كالابريا، منذ ما يزيد قليلاً عن عقد من الزمان، لفت الوضع انتباهي على الفور، حيث كانت هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها سكان مهاجرون جدد ضد العديد من الأشياء التي كانت تحدث لهم. سافرت إلى المنطقة لأرى ما يجري بعد أن وصلت إلى جويا تاورو، ومن خلال متابعتي للتقارير الصحافية، بدا أن الأمور كانت واضحة جداً، لكن في الواقع كان من الصعب جداً فهم كل شيء بعمق؛ معرفة القصة في تعقيدها؛ الوصول إلى الناس. كان هناك الكثير من الصحافيين، لكن بدا أنهم جميعاً يكررون نفس الشيء. عندها قرّرت البقاء. قلت لنفسي "حسناً، لقد حصلت على شقة، انتظرْ حتى يهدأ هذا الوضع وأعتقد أنه عندما يتحدث الجميع عن شيء آخر، ستكون قادراً على التعرُّف بالتفصيل على الحقائق والأسباب والعواقب".


خلال تلك المرات الأولى التي عشت فيها هنا، قابلت قدوس سيهون، الذي سيصبح بطل أول أفلامي. أصبحنا أصدقاء، واستأجرنا شقة معاً وبدأت فكرة "البحر المتوسط" في التبلور. باختصار: جئت إلى جويا تاورو وبقيت، لأنني بدأت في مقابلة أشخاص، في تكوين صداقات. كان "البحر المتوسط" مشروعاً استغرق وقتاً طويلاً للاكتمال وخلال تلك السنوات التقيت ببيو أماتو، الذي بالإضافة إلى مشاركته في الفيلم، أصبح لاحقاً بطل فيلم "كيامبرا". بعد خمس سنوات، تمحورَ عالمي حول جويا تاورو، وبالتالي أصبحت مكان إقامتي النهائي. بالنسبة لي، جويا تاورو ليست معملاً حيث أصنع أفلامي، بل مركز حياتي. لقد أحببت المكان، لذلك لم أفكر في الذهاب إلى أي مكان آخر، والعيش هنا جعلني أرغب في إنتاج المزيد من الأفلام عن المكان. وُلدت الثلاثية إذن من الرغبة في معرفة مكانٍ، ثم من الانتماء إليه، بعد أن تصبح جزءاً منه.


- من المفترض أن اهتمامك بمافيا ندرانغيتا جاء كنتيجة منطقية للعيش في جويا تاورو. متى قررت أن هذه ستكون نقطة الانطلاق لفيلمك الطويل الثالث؟

بعد أن عشت أكثر من عشر سنوات في جويا تاورو، رأيت كيف اختفى آباء بعض العائلات من يوم إلى آخر هرباً من القانون. في الحقيقة لم أشهد بعيني حادثة إطلاق نار واحدة، لم أشاهد مداهمة بمئات من رجال الشرطة أو رئيس البلدية مقيّداً بالأصفاد. هذا يحدث، لكنه ليس حدثاً يومياً. بالتأكيد، رأيتُ اعتقالات، كما آثار الرصاص على أبواب المنازل، وعلامات تحذيرية لا لبس فيها.

لكن أكثر ما أثار انتباهي هو التأثير الذي أحدثته "ندرانغيتا" على المجتمع، وعلى الأشخاص القريبين منها، حتى إن لم يكونوا جزءاً منها. هذا شيء دائماً ما شغلني، كل تداعياته على العائلة، على الناس العاديين. أسلوب الحياة هذا لم يُستكشف في السينما من قبل، على ما أعتقد. كانت وجهة نظري هي إظهار كيف يتعايش الناس في هذه المدينة مع حقيقة أن الجريمة المنظمة لها مثل هذا التأثير دون أن أجعلها تبدو أكثر إثارة مما هي عليه. في النهاية، لا يهمّ كثيراً ما إذا كان شخص ما يعمل مع المافيا أم لا.


- في مرحلة معينة من القصة، عندما لا يتوانى بحث كيارا عن الحقيقة، يظهر الخيار - وهو التزام قانوني إلى حد كبير - لكي تبدأ حياة جديدة مع عائلة أخرى. هل هذا فعلاً ما يحدث في الحياة الحقيقية؟

هذا صحيح، وهي قضية مثيرة للجدل تماماً. إنه ليس شيئاً وطنياً، بأي حال من الأحوال: المكان الوحيد الذي يحدث فيه هو كالابريا. والسبب، كما يشرح الفيلم، أن ندرانغيتا، حسب التقاليد، هي منظمة المافيا الوحيدة التي، كي تصبح عضواً بها، يجب أن يكون لديك رابط دمّ بأي من أعضائها. ليس الأمر كما هو الحال في المنظمات الإجرامية الأخرى، حيث إذا قمت بعملك بشكل جيد وعملت بجدّ يمكنك تسلُّق السلم وتصبح جزءاً منها. لكسر هذه الروابط الأسرية، والتسلّل إلى النظام الداخلي للمافيا، جاءت الحكومة المحلية بفكرة فصل الأولاد والبنات عن عائلاتهم بالولادة. بسبب تلك الروابط الأسرية القوية، فإن ندرانغيتا هي المافيا صاحبة أقل حالات الخيانة والوشاية في التاريخ كله.

بالطبع هذا قانون مثير للجدل، والمشرّعون أنفسهم يدركون ذلك وقد صرّحوا بذلك: فصل طفل عن أسرته أمر معقّد للغاية. شخصياً، بدا لي دائماً أنه قانون مؤسسي بارد جداً، وهو منطقي نظرياً، ولكن من الناحية العاطفية من الصعب جداً تحمّله. منحني وضع ذلك في قلب الفيلم الفرصة للنظر عن كثب في ما يعنيه أن تكون جزءاً، ليس فقط من عائلة مكرّسة للجريمة، وإنما أيضاً من عائلة. ماذا يعني أن تقبل عائلتك كما هي، حتى إن كنت لا توافق على ما يفعلونه. إخراج شخص من حضن أسرته يختبر كل القناعات التي قد تكون لديك بشأنها. ماذا تعتقد كيارا؟ ما القرار الذي ستتخذه؟ هذا بالنسبة لي هو جوهر القصة، بالإضافة إلى فكرة أن كونك زعيم مافيا لا تعني بالضرورة أن تكون والداً سيئاً. حقيقة أن هذا القانون له وزن كبير في القصة يعني أن البطلة يمكنها بنفسها اختيار مستقبلها والمسار الذي يجب عليها اتباعه.


- "إلى كيارا" صورة اجتماعية واقعية لهذه المنطقة، ودراما عائلية، وقصة عن النضوج واختيار الطريق، وفيلم إثارة في بيئة مافيا.. كيف يتلاءم كل هذا معاً؟

كان الأمر دائماً متعلقاً بمنظور كيارا، فهي تحاول فكّ لغز عائلتها واختفاء والدها. الكاميرا قريبة منها طوال الوقت، ما يعزّز ما تختبره وتشعر به في كل لحظة أثناء غوصها في هذا العالم الذي لا تعرفه. يُظهر الفيلم بدلاً من أن يشرح. كل شيء آخر يتبع هذا النهج.


- هل يمكنك وصف طريقتك في العمل مع الممثلين غير المحترفين والحصول على أداء طبيعي وقوي منهم؟

الشيء الجيد في العيش في جويا تاورو هو أن نصوص كل أفلامي تتغير بمرور السنين. عرفتُ سوامي روتولو منذ كانت في التاسعة، ومنذ تلك اللحظة عرفت أنها يجب أن تكون بطلة "إلى كيارا". بطريقة ما، النصّ مكتوب لها، هيئتها مطابقة تماماً. سأعطيك مثالاً: شاهدت ذات مرة جدالاً خاضته مع شقيقتها في الحقيقة، والتي تلعب أيضاً في الفيلم الدور نفسه، وانتهى هذا السجال بأن أصبح جزءاً من السيناريو.

بطريقة ما، مع مرور الوقت، أصبحت شخصية كيارا هي سوامي، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها كانت مَنفذي الوحيد الذي أملكه لفكرة أن تكون مراهقة في هذه المدينة. بهذا المعنى، فإن نصوصي تكون دائماً منفتحة على التجارب الحقيقية، ولكن بمجرد إنهائها وبدء التصوير، لا مجال للكثير من الارتجال. بالطبع، يجب توضيح أن عائلة سوامي ليست جزءاً من المافيا أو أي شيء من هذا القبيل (يضحك).


- بالنظر إلى هذه الخصوصية عندما يتعلّق الأمر بالعمل مع الواقع كمادة خام، فهل تقوم عادةً بتصوير الكثير من المواد التي لا تدخل في النسخة النهائية للفيلم؟

ليس تماماً. على الرغم من أنني يجب أن أقول إنّ مشهد الحفلة الذي في بداية "إلى كيارا" كان يمكن أن يصبح فيلماً قائماً بذاته. يعلّق الكثير من الناس على طوله، لكن في النسخة الأولى كان طوله 45 دقيقة. كنت مغرماً بهذا المشهد (يضحك). لا يتعلّق التحرير/المونتاج بالنسبة لي بحذف مَشاهد أو تركها خارجاً، بل باستخلاص واستخراج ما هو ضروري للقصة.