الغابة والطاغية..واللغة الخشبيّة

أسعد قطّان
الأحد   2022/11/13
كائنات تحبّ الحرّيّة
قرأتَ شجرة الشوح في إحدى منصّات الأخبار الإلكترونيّة أنّ لغة الطاغية الذي يحكم البلد لغة «خشبيّة». أحسّت بسيخ من اللوعة ينغرز في مسام جسمها الخشبيّ. فقرّرت الذهاب إلى شجرة السرو، ملكة غابات المعمورة، وتسجيل اعتراضها، إذ كيف يسمح البشر لذواتهم بأن يستخدموا مثل هذا اللفظ المسيء إلى الأشجار على الرغم من أنّهم يعرفون محاسن الخشب، ويدركون أنّ الأشجار تبذل روحها في سبيل استيلاده؟

استمعت السروة إلى خطاب شجرة الشوح بانتباه عظيم. وما كادت تتأكّد من صحّة الخبر، حتّى استحوذت عليها هي الأخرى حالة من الحرقة والإحباط. فالأشجار، على الرغم من أنّها تضرب جذورها في الأرض، كائنات تحبّ الحرّيّة. وتبذل كلّ ما في وسعها للمحافظة على الهواء كي يستطيع البشر تنفّس هواء الحرّيّة. فلماذا يشير البشر إلى لغة الطاغية بوصفها لغةً خشبيّة، وكأنّ الخشب الذي يستولدونه من رحم الأشجار بات مرادفاً لغطرسة الطاغية وعنجهيّته؟

قرّرت السروة أن تستشير شجرة الصفصاف، المعروفة برجاحة العقل وسداد الرأي على الرغم من ضعفها واتّكائها على صفحات المياه. اقترحت الصفصافة أن تسجّل الأشجار مجتمعةً اعتراضاً على هذه الإهانة المدويّة لدى هيئة الأمم المتّحدة، وأن تطالب الذين استخدموا هذا التعبير بسحبه والاعتذار عنه. أنصتت شجرة الأرز، ممثّلة الأمم المتّحدة في الغابة، بانتباه عظيم إلى مطلب أخواتها الأشجار. لكنّها ما لبثت أن اعتذرت عن عدم رفع الاعتراض إلى الهيئة، وذلك لكون المسألة ليست من اختصاص الأمم المتّحدة. فهي تتّصل باللغة العربيّة حصراً، وهذه مرجعيّتها الجامعة العربيّة.

توجّهت الأشجار إلى النخلة، ممثّلة الجامعة العربيّة في الغابة، وطلبت منها بتهذيب تسجيل اعتراض لدى مجلس الجامعة. أصغت النخلة بانتباه عظيم إلى خطاب السروة وشجرة الشوح وسائر الأشجار، وشعرت بأنّ المسألة غاية في الخطورة. فوعدت ببذل الغالي والنفيس لتسوية القضيّة. لكنّ مجلس الجامعة سرعان ما تنصّل معتبراً أنّ من مسؤوليّته حماية حرّيّة التعبير، وأنّ من حقّ الصحافيّين أن يستخدموا اللغة التي يجدونها مناسبة. فإذا اعتبرت الأشجار أنّ في العبارة إهانةً لها، فحريّ بها أن ترفع دعوى قدح وذمّ أمام القضاء. 

حارت الأشجار في أمرها، وعمدت من جديد إلى استشارة شجرة الصفصاف، المعروفة باتّزانها الذي تستمدّه من اتّكائها على صفحات المياه. فتحت الصفصافة فاها وهتفت: «يا أخواتي الأشجار، الاحتكام إلى القضاء لا يفيد. فالكلّ يعرف أنّه مجرّد ألعوبة في يد الطاغية. وهو، بذكائه المعهود، لن يجيّش القضاء ضدّ الصحافيّين الذين يستخدمون مثل هذه اللغة النابية، التي تعكس جهلهم بالخشب وفوائده. فهو إذا لجأ إلى قمع الصحافيّين الذين يتكلّمون هكذا، أقفل المتنفّس الوحيد للناس الذين لا يزالون يحسبون أنّهم يتمتّعون بشيء من الحرّيّة، مع أنّ الطاغية سرق أموالهم، وعذّب شبابهم، وسبى نساءهم، وأعدم مفكّريهم الأحرار. فالإبقاء على بعض الصحافيّين الذين ينتقدونه قليلاً خير له من إقفال مكاتبهم وزجّهم في غياهب السجون. فهو يدرك في العمق أنّهم أغبياء. ولو لم يكونوا كذلك، لما استخدموا مثل هذه التعابير المهينة مع أنّنا نغدق على البشر من صميم ذواتنا الخشب العظيم، الذي لولاه لصمت العود والكمان، واندثرت الكتب بملمسها البديع، وتوقّفت دورة الحياة. نصيحتي أن ننسى الموضوع كأنّه لم يكن، وأن نرجع إلى مزاولة وظائفنا اليوميّة، ولا سيّما تنقية الجوّ من شوائبه، كي يتمكّن البشر من تنفّس هواء الحرّيّة متى آن أوان الحرّيّة». رضخت الأشجار على مضض لرأي الصفصافة، وأقنعت ذاتها بأنّ القضيّة لا تستحقّ كلّ هذا الضجيج. وكانت شجرة الشوح أكثر الأشجار حزناً وكتماناً لغيظها. 

في الغد، ألقى الطاغية خطاباً يأمر فيه بإحراق الغابة عن بكرة أبيها والاستعاضة عنها بمعسكر يتدرّب فيه المجاهدون على تصدير نظريّته في تناسل الجراد بقوّة السلاح إلى البلدان المجاورة. أمّا الصحافيّون، فأمعنوا في انتقاد لغة الطاغية الخشبيّة، ولم يهتمّ أحد منهم بما حصل للغابة.