محمود عبد العزيز... العصامي الذي صنعه جاسوس

أشرف غريب
الجمعة   2022/11/11
الكيت كات
تقاس نجاحات أي ممثلٍ، بعدد العلامات المميزة التي تركها في مشواره، وهذا الرجل يكفيه وهج "رأفت الهجان"، أو حضور "الشيخ حسني" بطل فيلم "الكيت كات"، أو سِحر "منصور بهجت" في فيلم "الساحر"، ومع ذلك فقد ترك محمود عبد العزيز تجربة فنيّة عريضة، امتدت 42 سنة في ظروف غاية في القسوة والارتباك، فاستحق هذه المكانة التي تليق بنجم كبير مثله.

ولا يظنّن أحد أن محمود عبد العزيز، الذي رحل في 12 تشرين الثاني 2016، قد واتته النجومية في طُرفة عين، أو صنع تاريخه بين عشية وضحاها. إنه مشوار طويل من المشقّة والكفاح، تقلّبت عليه الأدوار وتقلب عليها قبل أن يروضها، ويمتطي صهوة تلك الساحرة البيضاء، ويصبح أحد أهم فرسانها. إنه أحد عصاميي أهل الفن بكل تأكيد.

فقَدَر محمود عبد العزيز، أنه جاء زمنياً في أواخر جيل كان قد سبقه بست أو سبع سنوات. فحينما بدأ مشواره الفني العام 1974 بالمسلسل الفيلمي "الدوامة" من إخراج نور الدمرداش، وفيلم "الحفيد" من إخراج عاطف سالم، كان نور الشريف الذي بدأ مشواره بفيلم "قصر الشوق"(1967)، قد قدّم حتى نهاية 1973 نحو خمسة وثلاثين فيلماً. وكان محمود ياسين، الذي ظهر للمرة الأولى العام 1968 في فيلم "3 قصص" قد قدّم اثنين وعشرين فيلماً. أما ثالثهما حسين فهمي، الذي كان فيلمه الأول "دلال المصرية" 1969، فكان قد مثّل في خمسة عشر فيلماً. ومن هنا، احتاج محمود عبد العزيز، مزيداً من الوقت كي يجد لنفسه مكاناً في خريطة الفن السينمائي، رغم الفرصة الكبرى التي منحها له مكتشفه المنتج رمسيس نجيب بإعطائه بطولة فيلم "حتى آخر العمر" العام 1975. ولم تكن هذه مشكلة محمود عبد العزيز الوحيدة عند بداياته، فقد كان الوصول إلى شخصيته الفنية أهم من عدد الأفلام التي يشارك فيها، إذ وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، حيث اصطدمت وسامته بوسامة حسين فهمي، وتقاطعت رومانسيته مع رومانسية محمود ياسين، وتماست حيويته مع حيوية نور الشريف. فماذا يفعل ذلك الشاب؟ وكان لهذا أيضاً أثره على الفرص المتاحة أمام فتى حي الورديان في مدينة الإسكندرية الساحلية، والآتي إلى القاهرة بأحلام أكبر من عرض البحر الذي استنشق هواءه طوال سنوات الطفولة والصبا. وربما يفسّر هذا مجموعة الأدوار الباهتة التي شارك فيها محمود عبد العزيز في تلك المرحلة من نوعية: "يوم الأحد الدامي، الشياطين، ابنتي والذئب، خطايا الحب، البنت الحلوة الكدابة، قلوب في بحر الدموع، وعيب يا لولو يا لولو عيب"، ومع ذلك كان له بعض الأعمال المهمة مثل: "طائر الليل الحزين، شفيقة ومتولي، وادى الذكريات، والمتوحشة".

معاناة
كذلك كان قدر محمود عبد العزيز، أنه حينما بدأت أدواره المهمة سالفة الذِّكر تشق له طريقاً نحو الاستقرار الفني، كان ابن جيله الآخر أحمد زكي قد ثبّت دعائم اسمه كممثل له حضوره الخاص، بينما عادل إمام يستأثر بلقب "النجم الأول" مع مطلع الثمانينيات، وتلك صعوبة أخرى صادفها محمود عبد العزيز بحيث أكاد أجزم بأنه من أكثر ممثلي نصف القرن الأخير عناء ومعاناة في الوصول إلى النجومية والقمّة. لكن القدر، الذي لم يسبغ حنانه عليه في سنوات بداياته الأولى ترفق به أخيراً، وأعطاه الفرصة التي كان ينتظرها، هذه الفرصة تمثلت في دوره المهم في فيلم "العار" العام 1982 من إخراج علي عبد الخالق. ثم دوره الصدمة في العام التالي، في المسلسل التلفزيوني الذي لم يأخذ حظه من الشهرة "الإنسان والمجهول" أمام القديرة مديحة يسري، ليخرج بعد هذين الدورين ممثلاً معترفاً به، غير محسوب على نوعية بذاتها من الأدوار، مع ميل خاص نحو أدوار الكوميديا ـ تلك القدرات التي فجرها فيه علي عبد الخالق مخرج فيلم "العار"، وأكّد عليها في فيلميه التاليين "الكيف" و"جري الوحوش".

وحتى العام 1987، كان محمود عبد العزيز مجرد فارس يجري في سباق النجومية، شأنه في ذلك شأن بقية زملائه في الساحة، يتقدمهم في مرة، ويتجاوزونه في أخرى، من دون أن يفقد في الحالتين حضوره الأخاذ، إلى أن حدثت في هذه السنة القفزة الفنية الكبرى التي نقلته من مجرد منافس لفرسان السينما الآخرين، إلى منافس أول وربما أوحد لنجم النجوم عادل إمام، وهي مرحلة الندية التي ظل محمود عبد العزيز يجني ثمارها فنياً حتى نهاية القرن العشرين تقريباً. وربما كانت أيضاً، وإلى حد كبير، المسؤولة عن تلك المكانة الخاصة التي حظى بها حتى رحيله، والتي ستضمن له كذلك هالة الاحترام والتقدير على مدى أجيال.

"رأفت الهجان"
في تلك السنة ظهر "رأفت الهجان"، أهم مسلسل عرفته الدراما العربية على الإطلاق، ليس فقط لقيمته الفنية، وإنما لأهميته الوطنية أيضاً، وحقق به بطله محمود عبد العزيز نجاحاً استثنائياً، لم يحققه أي ممثل من قبل، وأكد على نجوميته وأحقيته في تصدر الصفوف، غير أنه، وإحقاقاً للحق، فقد كان من الجائز جداً أن يضيع ذلك كله ويصبح هذه النجاح أمراً عارضاً لا دخل لمحمود عبد العزيز فيه، لو لم يكن يتمتع بموهبة حقيقية، والأهم قدرته على اختيار مجموعة من الأدوار والشخصيات كرست لهذه الموهبة ودعمت تلك المكانة الخاصة. في هذا الإطار يمكن النظر إلى شخصية "الشيخ حسني" بطل فيلم "الكيت كات" للمخرج داود عبد السيد، المأخوذ عن رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين". هذه الشخصية التي تجمع بين الصعلكة والتصوف في نسيج إنساني مبهر، ظاهره الكوميديا وباطنه التأمل، وكذلك جنوحه إلى الفانتازيا في تجاربه مع المخرج رأفت الميهي في أفلام: "سمك لبن تمرهندي، السادة الرجال، وسيداتي آنساتي"، وأيضاً في أفلامه الأخرى التي تستفز عقلك وهي تدعوك إلى الابتسامة كما في: "خلطبيطة، البحر بيضحك ليه، القبطان، هارمونيكا، و.. الساحر"، هذا الفيلم الذي تحوّل إلى لقب سيظل لصيقاً بالفنان الراحل.

وحتى حينما قدم شخصية "عبد الملك زرزور" في فيلمه الأخير "إبراهيم الأبيض" سنة 2009، تلك الشخصية التي جمعت بين العنف والدهاء، مستعيناً بتراكم التجارب وخبرة السنين، كان يحاول أن يرسم لنفسه مساراً جديداً وسط سينما لا تعترف بالرومانسية التي بدأ بها مشواره، ولا بالكوميديا التي قادته إليها خطواته (إلا عند الشباب طبعاً)، وإنما بتلك النماذج القادمة من شوارع الدم والبلطجة، حتى وإن اكتست بثوب الحكمة والنضج. وربما هذه النظرة الواقعية هى التي دفعته، مثل غيره من ممثلي جيله، إلى التوجه نحو الدراما التلفزيونية في سنواته الأخيرة، يحاول أن يقدم لها زاد موهبته، ويشبع من خلالها عطش عشقه للفن ورغبته في تنويع أدواره واستمرار عطائه. لقد بدأ محمود عبد العزيز مشواره السينمائي محباً ناعماً، وأنهاه دموياً عنيفاً، وبين الحب والعنف نثر ضحكته الرائقة في معظم محطّاته الفنية على الطريق.