ارتكاب الخلود

رشا الأطرش
الثلاثاء   2022/11/01
(تصوير: علي علوش)
الإقصاء والتهميش والتمييز على أساس العُمر، ليس من آفات بلادنا. هناك، في بلاد بعيدة، نتوهّم ترفّعنا عن ذِكرها أو التماثل بها أو حتى وَصفها، ثمة اسم لمثل هذه السموم: ageism. هناك، يسعون للتوعية عليها ومكافحتها ونصبها في ميزان الصواب السياسي، مثلها مثل المساواة الجندرية والعِرقية. لكن، ليس عندنا. هذه ملاحظة تدعو للاحتفاء. لقد نَفَذنا من آفة، رغم كل شيء... لولا أننا اخترعنا أخرى، ربما تكون أخطر. فنحن أمة ترتكب الخلود، كل يوم.

نحن بشر خارقون. لا نشيخ، لا نهرم، لا نعتزل. لا بد أننا خمسة أو ستة ملايين خارق وخارقة. فالأمثولة واضحة وصريحة لا تكذب: كما تكونون، يُولّى عليكم. كلنا ذاك الشيخ المتعب، المرفوعة صوره من أيام شبابه. الصائح، الغاضب، المتوعد ما زال. الفخور، المُعاند، الأبيّ، ناثر أوسمته كحفنات الأرُزّ في الأعراس. البادئ الآن، بعد طول مناكفة، مشروعاً مُعارِضاً، عصيّاً، وأمامه متسع من الوقت للمثابرة فيه وإضافته "لإنجازاته"، أو أقلّه ليكون واجهته التي ما زالت تجد من يُواليها.. و"مكملين". كلنا هذه الضحكة الطفولية في الفراغ بين حشرجتين، وكأن الفراغ زلّة طارئة. كلنا تلك الواجهة لتكتكة طموحات شابة جامحة لا رادع لها، ولا قانون ولا دستور يتصديان لها. كلنا هؤلاء المصفقون الذين بالكاد يُلمح بينهم شباب. وكلنا، أيضاً، تلك الشابة المُستدعاة لتكليفها شرف تسلّم الشعلة من السرمد. هل كانت، في ظروف أخرى، لتأتي من تلقائها؟

يقال إننا قوم يحترمون كبارهم. هم البركة والخبرة. السلف الصالح. الآباء والأمهات الذين سنعبد مدى الحياة، ولو فقط إجلالاً لانوجادهم المحض. ربما. وربما هذا هو الشعار، فيما الممارسة شيء آخر، على غرار ما نرى في سياسات الدولة وقوانينها و"حماياتها" و"ضماناتها" للمتقاعدين والعجزة. الهَرِم القوي، يبقى، ما دام قوياً مفيداً متسلّحاً بالعصَب، وهو قطعاً لن يتنحى بإرادته. والهَرِم الضعيف، متهالك، لا أحد يصبر عليه، بل ربما يُضرَب بالحذاء، كما فعلت تلك المرأة المقيتة بأمّها المُسنّة في فيديو غزا الشبكات الاجتماعية. لكن، ولو فقط من أجل "فائدة الشك"، على ما يقول الأجانب، فلنقُل أن في القليل الجميل من قِيَم القبيلة التي نُحكَم بها، ما استبقَيناه... في بيوتنا المتواضعة.. أحياناً.

أما حِكمة التراجع إلى مقاعد خلفية، لمجرد أن الأوان قد آن، ولأن الأهلية الجسدية والعقلية ما عادت خلقة الرب الكاملة التي "نَعِم" بها اللبنانيون ذات يوم، فهذه ليست حتى فكرة. جمالنا دائم، ذكاؤنا، عزيمتنا، ريادتنا. رقصنا، قفزنا، قيادتنا، جماهيريتنا، الكاريزما... مثل الطاقة، متى وُلدت، لا تفنى. هذا هو الكنز. القناعة خدعة للمهزومين. حتى مهزومينا لا يتنحون، وإن انسحبوا مؤقتاً. يظلون هكذا في الصدارة، بأطيافهم، و"السما زرقا" أو برتقالية، خضراء أو صفراء أو حمراء، يراوحون أبطالاً مهزومين لا يجيّرون أمكنتهم لبديل، إلا مَن يقررونه هم وريثاً. الديموقراطية وتداول المواقع ليسا مجرد نصوص.

الفنانون والفنانات، غناءً وتمثيلاً ومسرحاً. لا يكذبون، بل يتجمّلون ويتجمّلن. يتشبثون بالشاشات، في أدوارٍ عُقَدُها علاقات الثلاثينيين. المذيعون والمذيعات. صنّاع القرار وصانعاته، من أصغر جمعية إلى أكبر مؤسسة. روّاد المطاعم والمسابح. أرباب العائلات وربّاتها، قلما يسلّمون راية أو صلاحيات. السياسيون والـ... لكننا لم نبلغ درجة أن تكون لدينا طبقة من السياسيات. غير أننا، إن فعلنا، فإنهن، مثل زملائهن في السياسة والمجتمع وسائر فنون الاستعراض، إن كنّ محميات بنفوذ أو شهرة أو مال، فلهن النجاة. فقط إن امتلكن تلك الدروع أو بعضها. وإلا فإنهنّ، مثل زملائهن في الشأن العام وسائر الشؤون والشجون، بلا أصول يُعوّل عليها من الأساس.

في الحيز العام، أي حيّز منظور، خشبة الظهور المُضاءة بشغف أنا أبدية، المطلّة على جمهرات لا جمهور فيها بالضرورة،... لا نهاية إلا الموت. لا تقاعد ولا تَواري يُعلن طيّ صفحة، رمزياً على الأقل. ولا انتهاء فعلياً لمنصب أو قيادة. الخلود كافور الحياة المشتملة دورتها على شخصين أو أكثر، على مليون، أربعة، عشرة ملايين. الخلود، مع المُختار لاستكماله، إهانة تبلل وجوه الناس أمام الشاشات وفي الساحات.. حيث يستمرون في التهليل، كهول السنّ أو العقل.. كلٌّ على درب خلوده الخاص.