"بيروت هولدم" لميشال كمّون.. شقاء بيروت وحِكمتها

محمد صبحي
الخميس   2022/10/06
لا يقدّم الفيلم نهاية سعيدة، بل يتمسك بإمكانية استمرار الحياة
بعد 15 عاماً على باكورته الإخراجية، "فلافل"(2006)، يعود ميشال كمّون بفيلم روائي طويل ثانٍ بعنوان "بيروت هولدم" يبدو استكمالاً لما صاغه واشتغل عليه سابقاً: بيروت، وعلاقة أهلها بها، ومحاولة الإنسان المضنية لإنجاز خلاصه في بيئة لا تبخل بأسباب اليأس والشقاء.

الفيلم نفسه لم يكن إنجازه هيّناً، فمنذ بداية كتابته وحتى وصوله للصالات، استغرق الأمر 12 عاماً تقريباً، تخلّلها بحث عن التمويل وتأخير خروجه بسبب الجائحة ثم انفجار المرفأ. حدث هذا مع واحد من أفضل المخرجين اللبنانيين المستقلين. وهكذا، يصحّ الاحتفاء به، خالصاً لوجه السينما والممارسة الفنية في زمنٍ لبناني صعب وشاق، من قبل حتى الخوض في تفاصيله الفنية أو الإشارة إلى نواقصه ومآزقه الإبداعية (السيناريو والحوار تحديداً).

يرتكز "بيروت هولدوم" على حكاية بسيطة: يعود زيكو/زياد (صالح بكري) إلى ناسه وأهله بعد أعوام قضاها في السجن (أو "أستراليا" كما يمزح أصدقاؤه)، محاولاً استئناف ما انقطع: حياته وحبّه وصداقاته وألعابه. حاملاً ذنب وفاة شقيقه وقصة حبّ فاشلة، يجد نفسه مجبراً على المشاركة في عملية احتيال أخيرة بغية إعادة بناء حياته.

يعود في الليل إلى حيّ بيروتي شعبي يغلب عليه الطابع المسيحي، ولدى وصوله البيت يقابله أبّ بارد (روجيه عسّاف) وأمّ دامعة (نبيلة زيتوني)، وصورة لشقيقه المتوفّى. بعد ذلك، يلتقي أصدقاءه الثلاثة، جورج (فادي أبي سمرا) وفادي (زياد صعيبي) وربيع (عصام بوخالد)، وعلى الشاطئ يتبادلون النكات والشتائم كما يليق بشبّان راشدين تجاوزوا الأربعين ولم يغادروا صبيانيتهم بعد. ثم يلتقي حبيبته السابقة كارول (رنا علم الدين)، التي لا تريد الدخول من جديد في دوامته.


في بلدٍ ما زال يطارده شبح الحرب، وفي مدينة حيث يمكن أن تنفجر القنابل في أي وقت وفي كل شارع، مدينة يشبه العيش فيها لعبة "الروليت الروسية"، يحاول زيكو تغيير مساره وعاداته السيئة وأن يجد خلاصاً لنفسه. لكنه يواجه الكثير من التحديات، أوّلها صراعه الداخلي بين إدراكه لهامشيته وحظّه التعس، وبين تصميمه وإرادته لتغيير ذلك. ينطلق في رحلة بقاء/نجاة عبر بيروت ما بعد الحرب، التي تبدو مكاناً مصنوعاً من مزيج متناقض من العنف والحنان.

ورغم تمحور الأحداث حول شخصية زياد وسعيها، إلا أن الفيلم يولي عناية لبقية الشخصيات (مثلما في ذلك المشهد الجميل والمؤثر لإحدى الشخصيات الثانوية التي تؤديّها ريتا حايك)، ليستوي بقصصه وخيوطه حكايةً بانورامية عن خيبات الأمل والخلل المجتمعي، والعيش المتوتر بين رجاء ويأس في بلدٍ على حافة الحرب دائماً والإفلاس مؤخراً، ما يجعل الحياة اليومية تبدو وكأنها أرجوحة سيرك، والوجود المطلق شكلاً آخر من أشكال المقامرة.

كل شيء مقامرة ومراهنة ومخاطرة في بيروت العائشة على وقع الصدمة والانهيار. في بيئة كهذه لا توفّر الكثير من الفرص، تغدو المخاطرة مسلكاً أساسياً لمَن لا يملك الحظّ. يخاطر بكل شيء لعلمه أن بإمكانه خسارة كل شيء. حياة مكثّفة يلتقطها كمّون في لقطات ومشاهد يودعها كثافة روائية مشابهة، تختزن ألماً وفرحاً وغضباً ومشاعر أخرى. يملك كمّون حسّاً روائياً وحكائياً لا تخطئه عين. صوره نابعة من الواقع، كما لو أنها منحوتة، وأحداثه تنتظم فقرات قصيرة مكثّفة تأخذ إيقاع المدينة السريع (أحياناً يغدو أكثر من اللازم)، كذلك اختياراته لمواقع التصوير أكثر من رائعة، خصوصاً في المشاهد الليلية (كاميرا مديرة التصوير الفرنسية سيلين بوزون).

يستوحي كمّون عنوان فيلمه من إحدى ألعاب البوكر، وفيها يراهن اللاعب بشكل أعمى بناءً على حدسه ويتحمّل الكثير من المخاطرة من أجل الظفر بفوز كبير. الرهان هنا مرتبط بوعدٍ واحتمال لغدٍ غير معلوم ولا يمكن الوثوق فيه، بفرصة ثانية لعيش الحياة كما يجب، أو ربما البدء من جديد "على نظافة". في كل أفعاله تقريباً، يأخذ البطل هذا الرهان، لكنه يظلّ عاجزاً وحده عن تغيير واقعه ومصيره، لأن العالم أكبر منه ببساطة، ولأن الأشياء تحدث في بيروت، كما في أي مكان آخر، غير أن حدوثها في تلك المدينة بالذات يأتي شديد الوطأة ممزوجاً بقسوة وعبث لا يناسبان أوضاع خاسرين في مدينة مهزومة يرنون إبقاء رأسهم في الماء.

لا يقدّم الفيلم نهاية سعيدة، بل يتمسك بإمكانية استمرار الحياة، بمعطيات أخرى وتباديل وتوافيق تجعلها ممكنة لمَن يريد ويملك القدرة على مفاوضة شروطه وظروفه. طالما قرّرتَ المضي قدماً، فكل الاحتمالات ممكنة. بالمثل، لا يقسو الفيلم على أي من شخصياته، حتى أبعدهم من قيم النُبل والشهامة، لأن لكل أسبابه.

أبعد من نواقص السيناريو والحوار، يستبطن الفيلم شيئاً من الحكمة في إيقاعه وخلاصته (تذكّر كثيراً بسينما الفنلندي آكي كوريسماكي)، إذ يعلّمنا أن نسير مع التيار، فلا شيء مخططاً له تماماً، ودائماً ما تعطي الحياة كتفاً ومَشقّة للضعفاء والعاجزين. وعادة ما تنسدّ الطريق أمامك، لكن ليس عليك التوقف، بل البحث عن طريق آخر، كما فعل زياد. ولا أحد يستطيع أن يعرف ما هي الحياة فعلاً، حتى لو انتهت. فالوقت يمرّ، ونحن في حصّتنا منه نحاول أن نبقى ونفهم، لكن الأهم من ذلك أن نختبر جمال العالم، حتى إن كان شحيحاً.