صباح وإطلالتها المنسية في مسرح الأولمبيا

محمود الزيباوي
الأربعاء   2022/10/05
الليالي اللبنانية" في مسرح الأولمبيا في 20 كانون الثاني 1969
نشر الإعلامي ريكاردو كرم مؤخراً، تغريدة تحدّث فيها عن مسرح الأولمبيا الذي استقبل تباعاً أم كلثوم وفيروز ووردة، وأثارت هذه التغريدة حفيظة معجبي صباح الذين اتهموه بإغفال ذِكر نجمتهم التي سبقت فيروز إلى الغناء على خشبة هذا المسرح. وتساءل الكثيرون ممن تابعوا السجال: لماذا دخلت إطلالة صباح الفرنسية في النسيان؟
 
في مطلع العام 1969، تناقلت الصحافة اللبنانية خبر استعداد روميو لحود للسفر مع فرقته الفولكلورية إلى باريس لإحياء حفلة في 20 كانون الثاني، على خشبة "صالة الأولمبيا التي استقبلت، قبل أشهر، أم كلثوم". وبحسب ما نُشر في "ملحق الرياضة والتسلية" الخاص بجريدة "النهار"، سافر روميو على رأس فرقة تضم 68 شخصاً، تتقدّمّهم السيدة صباح، لإحياء الحفلة المنتظرة، وسبقت هذه الحفلة "دعاية ضخمة في باريس قام بها مجلس السياحة اللبناني، فعلّق 2000 إعلان في مختلف الأنحاء. وسيلبّي دعوة السفارة 36 سفيراً، وعدد من الكتّاب والفنانين ومشاهير باريس، إضافة إلى مئة صحافي من أوروبا". 

حملت الحفلة عنوان "الليالي اللبنانية"، وهو العنوان التي عُرفت به الليالي المحلية في مهرجانات بعلبك الدولية، وحوى برنامجها المعلن مجموعة من لوحات غنائية راقصة قدّمتها فرقة روميو لحود في السابق، ضمن عروضها الاستعراضية في مسرح فينيسيا في بيروت منذ 1965، وهي العروض التي اختار لها روميو لحود تباعا أسماء "موال" في 1965، "ميجانا" في 1966، ثم "عتابا" في 1967، إضافة إلى مسرحية "القلعة" التي قُدّمت في بعلبك صيف 1968. تألّف هذا البرنامج من فصلين يحوي كل منهما أربع لوحات. يُفتتح الفصل الأول بلوحة استعراضية جامعة مدتها ربع ساعة، تشكّل مقدمة للحفلة، وفيها يشترك الفنانون جميعاً، بأزيائهم الفولكلورية اللبنانية. أما اللوحة الثانية، فعنوانها " صيادون من جبيل"، وتليها وصلة لصباح في أربع أغنيات جديدة تشكّل اللوحة الثالثة، وتحلّ بعدها اللوحة الرابعة، وهي "مشهد بدوي من البقاع". يُفتتح الفصل الثاني بلوحة من الموشحات الأندلسية، تتبعها لوحة تحاكي "الربيع في لبنان"، وهي على الأرجح "حكاية الحلم الربيعي" من استعراض "موال"، ثم تطل صباح في اللوحة الثالثة لتقدم أربع أغنيات من "أشهر أغانيها"، والختام لوحة تحييها الفرقة كلّها.

ضمت الفرقة 15 راقصاً و 15 راقصة، بينهن راقصة شرقية تُدعى لينا حلّت في المكان الذي تشغله عادة نادية جمال، كما ضمّت 10 مغنيات و10 مغنّين، على رأسهم جوزيف عازار وعصام رجي. وتألّفت الفرقة الموسيقية المرافقة من 11 موسيقياً على رأسهم وليد غلمية، وأبرز هؤلاء الموسيقيين عازف الكمان عبود عبد العال، وعازف البزق مطر محمد. كما رافق هذه الفرقة عدد من الفنيين "يحملون 280 بدلة وأطناناً من الأكسسوار". أعلنت السفارة اللبنانية في باريس عن استعدادها لإقامة حفلة على شرف الفرقة، وذلك قبل أن تتوجه إلى بلجيكا لتقيم خمس حفلات في أربع مدن، أوّلها حفلة في بروكسيل مخصصّة لمدعوي السفارة اللبنانية، وهم من "أكبر الشخصيّات الصديقة للبنان من القطاعات السياسية والأدبية جمعاء"، وكلّ هذه الحفلات تتمّ برعاية "مجلس السياحة اللبناني" وبمساعدة "طيران الشرق الأوسط الخطوط الجوية اللبنانية". ولم تكن هذه الجولة هي الأولى من نوعها في مسيرة روميو لحود، بل الخامسة، ففي 1966، حمل معد برامج الاستعراضات اللبنانية فرقته إلى بروكسيل في 1966، وفي العام التالي، حملها إلى أثينا، ثم إلى باريس بمناسبة افتتاح مكتب السياحة اللبناني، وبعدها إلى إيران، وذلك ضمن حفلات التتويج الإمبراطوري، ولم تشارك صباح في أي من هذه العروض. 

ضيفة شرف
في الخلاصة، أحيت فرقة روميو لحود حفلة في الأولمبيا تلتها حفلات في بلجيكا، وكانت صباح ضيفة شرف في البرنامج الذي اعتمدته هذه الجولة، تماماً كما حصل في استعرض "ميجانا" في مسرح فينيسيا العام 1967. واكتفت الشحرورة بتقديم لوحتين من أصل ثماني لوحات، وغّنت أغنية "عالندّا" الرحبانية بكلمات فرنسية خاصة بهذا المناسبة، بعدما سجلتها في نسخة تذكر فيها باريس بالاسم، ونسخة أخرى تُحيّي فيها الجمهور بشكل عام، وعدا ذلك، تبدو النسختان متشابهتان إلى حد التطابق، وقد اعتمدت الأولى في الأولمبيا، والثانية في الجولة البلجيكية. إلى جانب هذه الأغنية، قدّمت صباح "عالضيعة" من ألحان محمد عبد الوهاب، "طعميتك سكر" لمحمد الموجي، "جيب المجوز" للأخوين رحباني، "قلعة كبيرة" لوليد غلمية، "واقفة عراس الطلعة" و"يدوم عزك" لفيلمون وهبي، إضافة إلى وصلة أبو الزلف وعتابا التي أدتها مراراً قبل هذه الجولة.

حضر الناقد سمير نصري حفلة باريس، وكتب في "ملحق الرياضة والتسلية" مقالة قال فيها إنها تضّمنت "برنامجاً صفّق له حوالى ألفي شخص كانوا يملأون مسرح الأولمبيا، أشهر ميوزيك هول في أوروبا"، وأن هذا البرنامج سيُعاد تقديمه في بروكسيل. راوح ثمن التذاكر بين 14 فرنكاً و 25 فرنكاً فرنسياً، وجرى خفض هذا الثمن للطلاب نحو 25 في المئة، فملأ الطلاب العرب مقاعد كثيرة. وضع وليد غلمية موسيقى الرقصات التي قُدّمت ضمن هذا البرنامج، ولمع في الفصل الثاني مطر محمد في وصلة منفردة على البزق، وعبود عبد العال في وصلة أخرى منفردة على الكمان. 

كذلك حضر جان شاهين هذه الحفلة، وكتب في "الشبكة" مقالة استهلّها بالقول: "ورقة جديدة من باريس. ورقة سجلت عليها حديثاً لـ"المسيو أولمبيا"، أو المسيو برونو كوكاتريس عن مسرحه، الذي كنت أتصوّره قبل أن أراه، متجسّداً من أسطورة، ولمّا شاهدته أُصبت بالخيبة. ان مظهره الداخلي والخارجي يحاكي وضع أي صالة سينما عندنا في بيروت من الدرجة الثالثة. هذا بالنسبة لأشيائه الملموسة: البناء والمقاعد والجدران والأثاث وحتى المسرح. أما اسم الأولمبيا، كصالة ميوزيك هول، فيشمخ كبرج إيفل أو كقوس النصر، لا في باريس وحسب، بل في العالم كلّه. هكذا معظم الأمور في العاصمة الفرنسية، ان مادتها تتضاءل جداً أمام معنوياتها".

تحدّث برونو كوكاتريس عن مسرحه، واستعاد تاريخه منذ تأسيسه في 1892، ثم توقّف عند سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وقال "ان الذين أتيح لهم سماعها في الأولمبيا ما زالوا يتحدثون عنها كمعجزة غناء عزّ نظيرها". واصل عرّاب الصالة العريقة ومتعهّد حفلاتها، الكلام، وقال عن الليلة اللبنانية التي شهدها: "إن الجمهور الأوروبي يتهرّب من حضور أي نوع من الفولكلور لأنّ كل مواضيع الفولكلور تدور حول الأرض والحرب والنار والفلاح وما إليها، لكن طريقة عرض فولكلوركم تبرزه بشخصية خاصة جداً، وتعكس نفسيّة أصحابه وروحانيّتهم، وهناك أشياء كثيرة في فولكلوركم عشتها ولا أستطيع الإعراب عن مشاعري عنها". وأكّد برونو كوكاتريس في الختام ان "النجاح الذي صادفته صباح والفرقة كان يُمكن أن يستمرّ أكثر من أسبوع".

إعلامياً، لم تُشر جريدة "لوموند" إلى الحفلة، بخلاف جريدة "لو فيغارو" التي نشرت تحقيقاً قصيراً عنها. في المقابل، كتبت الناقدة المخضرمة جاكلين كارتييه، في صحيفة "فرانس سوار"، مقالة انتقدت فيه استعمال تقنية الـ"بلاي باك"، أي الموسيقى المسجّلة لا الحيّة، وحضور الرقص الشرقي التقليدي في هذه "الليلة اللبنانية". في الواقع، استعان روميو لحود بهذه التقنية في الجزء الأكبر من الحفلة، كما اعتمدته صباح كما يبدو في أدائها لثلاث أغنيات، هي "عالندّا"، "يدوم عزّك" و"قلعة كبيرة".