شارل قرم بين الشعر والأوليغارشيا

محمد حجيري
الجمعة   2022/10/28
تزوج شارل من سامية بارودي في العام 1935، وكانت ملكة جمال لبنان
قبل سنوات كتب الناقد والشاعر شربل داغر: "إذا كانت مناسبات التكريم متوافرة للغاية في هذه الأيام اللبنانية، وتُصيب الأحياء قبل الأموات أحياناً، فذلك لا يجد تفسيره في طي صفحات الحرب الماضية، ولا في ولعٍ شديد بالحاضر، ولا في تعجيل دورة الزمان، وإنما في متطلبات أخرى نجد أسباب بعضها في تدبر "الإجماع" الوطني من جديد؛ وهو تدبرٌ لا يؤدي واقعا إلا إلى إجراء "تسويات" بين الأحياء، وموازنات بينهم". وأضاف "في حشد التكريمات هذه، لم يحظ الشاعر اللبناني الراحل شارل القرم (1895-1963)، الكاتب بالفرنسية، بأي تكريم، على ما عرفنا، سوى إقدام "الحركة الثقافية" (انطلياس) على تعليق بعض شعره مترجماً إلى العربية على لوح خشبي في بهو صالة العرض، في موسمها الكتابي السنوي، فبدا أشبه بالمرذول من المشهد التكريمي الضاج الجاري في الصالة المجاورة!". ويسأل داغر: "أيعود هذا إلى كونه شاعر "الفينيقية" الأول في لبنان، والمقتول مرتين بالتالي، وقد حسم "اتفاق الطائف" النقاش والصراع، كما يُقال في لبنان، حول "عروبة" لبنان؟ ربما، إلا أن فتحَ هذا الملف المطمور، أو المدعوك على عجل، لازمٌ ومفيد...". ويستنتج داغر الكثير من التفاصيل حول أعراض "خرافة الأصل" و فينيقية قرم وشعره الذي "يبدو ترتيباً واصطفافاً، يفتقران إلى الموهبة الكبيرة".

(فرع شركة شارل قرم في حيفا، 1929، بحسب إحدى صفحات فايسبوك)

لا أدري إذ كان اتفاق الطائف أو غيره يمنع أحداً من الاحتفال بشاعر فينيقي أو عروبي أو سوري أو غربي، باعتبار أن هذا البلد يحتضن تيارات متناقضة وأحياناً متجانسة، هذا عدا عن أن العروبة هي عروبات، فثمة العروبة البعثية والعروبة الناصرية والعروبة الأسدية والعروبة المارونية... والفكرة أنه غالباً ما يتم التطرّق إلى شارل قرم باعتباره أيقونة الإيديولوجيا الفينيقية من جهة، أو صاحب النزعة الاستعلائية المعادية للعرب، بحسب بعض المؤرخين. وحين أعلن عن تكريم قرم في مهرجان "بيروت كتب" من قبل "مركز التراث اللبناني"، استبق رئيس المركز، الشاعر هنري زغيب، التكريم، بمقال يضع شارل قرم في خانة "المنقذ والمخلّص"، ليعنون مقاله: "انطلاقاً من لبنان شارل قرم"، كضرورة، ثقافيًّا ووطنيًا، ويقول: ذكرتُ "ثقافيًّا"، وذكرتُ "وطنيًّا"، وأَقصِدُهما معًا بالتوازي. ويشرح:

1. ثقافيًّا: بما يمثِّل شارل قرم من حضور أَدبيّ وشعريّ في مؤَلَّفاته العشر، في أَربعة أَعداد مطبوعته "المجلة الفينيقية" (تموز، آب، أَيلول، ميلاد 1919)، وفي أُمسيات "الصداقات اللبنانية" أَسَّس في مكتبته الخاصة سنة 1935 صالونًا أَدبيًّا وثقافيًّا ضَمَّ نخبةَ النخبة أَدبًا وشعرًا وعلومًا من أَعلام ثلاثينات القرن الماضي. 

2. وطنيًّا: بما يمثِّل شارل قرم (1894-1963) من قيَم لبنانية خاصة وإِنسانية عامة، استقاها من حضارة لبنان في التاريخ.  ويضيف: هو شارل قُرم الذي يجهله ردح كبير من اللبنانيين اليوم، فيما يجب أَن يكون منارةً يتلقَّفونها ليلْمسوا عمْقَ هويتهم، وضرورةَ مناعتهم، وعظمةَ انتمائهم إِلى وطنِ غيرِ عادي. لكنَّ القدَر في العصر الحديث بَلاهُ بأَهل سُلطة أَقزام تولَّوا حكْم دولةٍ تافهة لوطن غير عادي كان شارل قُرم في رائعته "الجبل الملهَم" (1934) قال عنه: "لَم يُعاينْ أَيُّ شاهدٍ في أَيِّ مكان من الأَرض بلدًا بهذا الاتضاع ولا قدَرًا بهذا الاتساع". ويضع زغيب شرطاً بأن "رئيس الجمهورية الجديد، إِن لم يكن يعرف هذه الحقائق وسواها وانطلاقًا من لبنان شارل قرم، فلا يستاهل أَنْ يحكُم لبنان.

ولا تختلف شروط هنري زغيب الرئاسية، عن شروط العروبيين أو اليساريين أو الممانعين أو القوميين أو اليمينيين أو الحياديين أو المقاومين والخمينيين. فكلّ يغني على ليلاه، أو كلّ يبحث عن زمانه، وفي المحصلة يكون رئيس الجمهورية في مكان آخر... بالتأكيد، وبغض النظر عن موقفنا من أفكار شارل قرم، فهو في المحصلة يشكل جزءاً من التنوع الذي صنع بيروت التعددية والأفكار والجسور، هو "حلم" من أحلام كثيرة، بات معظمها نوستالجيا أو صفحات حنين متحفيّ..

ما ينبغي قوله أنه على مدى السنوات الماضية، غالباً ما يتم الاحتفال بالأيقونات الثقافية والسياسية اللبنانية، بإطلاق غبار إيديولوجي حولها يزيد من حجبها لا كشفها، وهذا ما حصل في بعض الكتابات عن شارل قرم الذي تبدو سيرته وثقافته وتجارته و"أوليغارشتيه"، تعبيراً عن أنماط الحياة والسياسة في لبنان في مرحلة من المراحل، وهو في تعريفه ملياردير وشاعر وناشط قومي لبناني وابن الرسام داود القرم، ذائع الصيت في روما قبل بيروت والقاهرة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر...

وتعود أصول عائلة القرم إلى غوسطا (في جبل لبنان)، إلا أن شارل ولد في بيروت، وتلقى فيها علومه، في مدرسة "الفرير"، ثم انصرف إلى التجارة والأعمال... في سن 18، وبالتحديد في العام 1912، سافر إلى نيويورك. أنشأ هناك شركة استيراد وتصدير في برودواي. ونظرًا لأن لغته الأولى كانت الفرنسية، فقد حضر الكثير من عروض برودواي مرارًا وتكرارًا حتى تعلم أساسيات لهجة نيويورك الإنكليزية. وأصبح وكيلاً لسيارات فورد الاميركية في مصر وسوريا والأردن وفلسطين، وهناك صور متوافرة عن فرعه في فلسطين، ومن ثم أنجز مبنى مازال قائماً في نيويورك. وبحسب الاقتصادي مروان اسكندر، بدأ قرم عملية تجميع سيارات فورد في أرض ابتاعها مقابل المتحف الوطني، حيث بنى أيضاً منزله، وبلغ عدد موظفي شركته في لبنان (ضمن مبنى شركة كرايلزلر) وفي الخارج، آلاف العمال والمدراء. ووفقًا لرشدي معلوف، "كانت لدى شارل قدرة مذهلة على إقامة علاقات صداقة مع جميع أنواع الناس بالسهولة نفسها. في بعض الأحيان، بدا لي أنه لا يوجد أحد لا يعرفه. وقد منحه هذا نفوذاً هائلاً في ريادة الأعمال والأدب والسياسة. سواء من خلال الأعمال أو الفن، أمضى شارل حياته في بناء جسور قوية بين لبنان، والذي غالبًا ما أشير إليه في ذلك الوقت باسم باريس الشرق الأوسط، وبين الغرب". 

وتزوج شارل من سامية بارودي في العام 1935. (كانت تحمل لقب ملكة جمال بيروت وملكة جمال سوريا).

وإذ عُرف له ديوان خاص باسم "سرّ الحب"، فهو لم يعالج فيه الحب بموحياته المألوفة، بل دار حول تصوير حياة مريم المجدلية في وجوهها وتحولاتها، وأصدر "الجبل الْمُلْهَم"، كتابه "الأبرز"، فنال لدى صدوره "جائزة إدغار آلِن پو". وكتب عنه الناقد الفرنسي الكبير روبير هونّير: "أَخَذَني فيه أُسلوبُه الصافي، وشِعرٌ كلاسيكي قويٌّ يُجسِّد آثاراً لبنانيةً تغتني بها اللغة الفرنسية"... والحال أني، حين أقرأ بعض قصائد قرم الآن، عن الأرز ونحوه، أشعر كأني استيعد جانباً من ثقافة الاستظهار المدرسي، ذلك الذي أحدث شرخاً بيني وبين الشعر.