إعادة اختراع بيروت... وسام بيضون يجعل الخريطة متاهة

محمد شرف
الثلاثاء   2022/10/25
مزيج حب وكراهية مستمر منذ 47 عاماً
عشر سنوات مرّت على افتتاح غاليري "آرت أون 56". عشر سنوات مرّت بسرعة فائقة، إذ كنا نفترض، في قرارة أنفسنا، أن عُمر نشاط الغاليري سيكون أقل من ذلك. عَقد من الزمن كان زاخراً بأشياء كثيرة، بعضها شبه طبيعي في نصفه الأول، من حيث وضع البلد العام وأوضاع صالة العرض.

استطاعت الغاليري، في تلك الظروف العادية، أو شبه العادية، أن تضع برنامجاً لنشاطاتها، حَفِل بمعارض شاءت من خلالها تقديم وجوه متنوّعة، وصور مختلفة، لنتاج الفن التشكيلي اللبناني، وغير اللبناني. بيد أن الأمور بدأت في النصف الثاني للعقد تسير إلى سوء إقتصادي وإجتماعي كان توقّعه خبراء لم نصدّقهم في حينه، إلى أن انعكس أزمة مستعصية طاولت الجميع وأنهكتهم، ثم تكللت بإنفجار مرفأ بيروت المروّع الذي دمّر أحياء بكاملها، وطاول الغاليري نفسها حيث يُقام المعرض الحالي، فحطّم ما حطّم من أثاثها وأبوابها ونوافذها، وأوقف نشاطها لفترة من الزمن.

لكن أصحاب صالة العرض لم يستسلموا للأمر الواقع، وأعادوا الأمور إلى نصابها، بعد جهود نتصوّر حجمها جميعاً. وها هي الغاليري تحتفل بالذكرى العاشرة لتأسيسها، وإعادة تأهيلها، من خلال معرض فردي لأعمال الفنان اللبناني وسام بيضون، كان إتخذ عنوان "Re-Imagining Beirut" (إعادة تخيّل بيروت). وبيضون من مواليد بيروت، حصل على شهادة البكالوريوس في الفنون من الجامعة اللبنانية الأميركية. أعماله المعروضة، إضافة إلى تصريحاته، تؤكّد العلاقة الوئيقة التي تربطه بالمدينة، إذ يقول: "إنها مدينة غائرة تحت جلدي، وهي أشبه بوشم مطبوع فيه وعليه. ثمة علاقة هي مزيج من الحب والكراهية تدوم منذ 47 عاماً. إنها بطاقة ذاتية، ضرب من رسم خرائط، ذو طابع شخصي. لقد حاولت، من خلال مقاربة تجريدية، إعادة تصوّر – إبتكار خطوط المدينة كتخريم قماشي، وكمجموعة من الطرق والمباني على شكل متاهة شبه فوضويّة لكنها ذات غنى، وكأنني أرسم خريطة تجربتي الشخصيّة خلال كل الأزمنة".  



يشير الفنان إلى أن المدينة تعرّضت للدمار غير مرّة. فعلت الحروب والصراعات فعلها في هذا الحيز، وكان آخرها إنفجار 4 آب المدمّر المذكور أعلاه. الحوادث التي عصفت بالمدينة، والتي شهدها جيل السبعينات والثمانينات، لم يرَ الجيل الجديد سوى آثارها. بعض العمارات القليلة ما زالت مزيّنة بثقوب عمل الزمن على تشذيب حروفها، واقتربت من الإنمحاء، لكن مفاعيل الصراعات والآثار الإجتماعية والنفسية التي خلّفتها قد لا تنتهي في يوم قريب. يضاف إلى ذلك ما يعتمل في المدينة، في كل حين، من حركة البشر والضجيج، والأصوات ذات المصادر الكثيرة، والطرق الفسيحة منها والضيقة. أراد بيضون أن يعيد "بناء" المدينة في نفسه، آخذاً في الإعتبار المعطيات المذكورة وسواها، عبر وضع مخطط مختلف لها. الناظر إلى "خريطة" بيضون، المتكررة في معظم الأعمال، بطرق ومداخل مختلفة، سيرى عملاً تشكيلياً يعتمد مساحات لونية متلاصقة أو متداخلة، أو قد يعمد إلى التشفيف، وبإختصار، فهو لا يستثني كل الوسائل التقنية المرغوبة والمتاحة.

استخدم بيضون التقاليد القديمة لرسم الخرائط، علماً أن خريطته لا شأن لها بالطابع المدرسي – العلمي. وهو، إذ يروي قصصًا، يعمد، من خلال التجاور بين الأشكال المجردة والعضوية، إلى إنتاج خريطة ذاتية للمدينة تكشف عن مجال اكتشاف لا نهائي مع كل حكاية منسوجة في الطبقات المعقدة لخريطة المكان الغارق في نسيج وعي الفنان الإبداعي. من خلال استخدام التقاليد القديمة لرسم الخرائط، من حيث الشكل العام ومن دون الجوهر المعروف، يصبح رسم الخرائط ذا بعد شخصي وحميم، بدلاً من أن يكون دقيقاً، كما يستوجبه الطابع التقليدي. شاء الفنان تلخيص الخصائص المادية لبيروت لتوضيح كثافة المنطقة، وتنوع خصائصها. وهو، بدلاً من توجيه المشاهد إلى مكان ما، يحوّل خريطته إلى متاهة، مما يسمح للخيال، أو يدفعه، إلى الضياع في هذه الفوضى. الرسوم هنا هي أشبه بأوعية وشرايين تعج بالحياة، وتحرر العقل من أجل التجول في الأراضي الملوّنة، من دون تحديد وجهة ما. أما وفرة الأشكال، في التصوير الفعلاني – الحركي، بما يترك للمشاهد حرية التفسير، التي قد تكون ذات علاقة بتسجيل حدث أرضي، فهي، هنا، تسجيل لحركة، والحركة، إذن، هي خط له إتجاه فضائي وزمني تعبّر عنه إشارته التصويرية. كما يمكننا تتبع هذه الإشارة في بعض الإتجاهات، إلى أن نضيع في المتاهة التي تقصّدها الصانع، ومن خلال الإشارة، تشدّنا الحركة إلى إقتفاء آثارها الضائعة، ونتوقف عندها مع إعادة إكتشافها، وفي ذلك إكتشاف للغاية الأصلية منها.

من خلال كل ما سبق ذكره، كما من خلال الأخذ في الإعتبار الأبعاد الرمزية للأعمال وإشاراتها المبطّنة، يبدو وسام بيضون كمن شاء تكريم بيروت على طريقته الخاصة المبتكرة. هذه المدينة في حاجة إلى إعادة تشكيل نفسها، وإعادة إبتكار نفسها. المهمة، في بعدها العملي الواقعي، قد تبدو صعبة، لكن إعادة تخطيط المدينة في الخيال التشكيلي ممكنة، ومعرض بيضون، لدى "غاليري آرت أون 56"، هو خير دليل على ذلك.