بين القوميّة والمصالحة: مشاهدات من كلوج-نابوكا الرومانية

أسعد قطّان
الأحد   2022/10/23
جدرانية في الكاتدرائية الكاثوليكية(القرن الخامس عشر)
يعيد أهلها تأسيس مدينتهم إلى العهد الرومانيّ. وقد أقاموا، في وسطها التاريخيّ، نصباً للذئبة التي تقول الأسطورة إنّها أرضعت ريموس ورومولوس، مؤسّسي روما. هذا ما يدلّ عليه الاسم القديم للمستعمرة الرومانيّة «نابوكا»، الذي أضيفت إليه في ما بعد تسمية «كلوج»، فصارت المدينة تدعى «كلوج-نابوكا».

هي اليوم المدينة الثانية في رومانيا من حيث عدد سكّانها، الذي يناهز نصف مليون، بمن فيهم نحو مئة ألف طالب. فالجامعات في كلوج نجحت في تأسيس برامج أكاديميّة باللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة، وهي آخذة اليوم في استقطاب الطلبة من أنحاء أوروبيّة شتّى. الذين زاروا المدينة قبل نحو عقد من السنين قالوا إنّها كانت مدينةً بلقانيّةً تقليديّة. أمّا اليوم، فهي مدينة غربيّة تتنوّع فيها الأقوام والثقافات، وتنوء بزوايا الترفيه التي يرتادها الطلبة. ولعلّ كلوج هي أكثر مدن رومانيا تنوّعاً، وأقربها من المناخ الذي يتبادر إلى ذهن المرء حين يفكّر في واقع الاتّحاد الأوروبيّ ذي الطابع التعدّديّ. 

غير أنّ كلوج-نابوكا مجروحة أيضاً بجروح التاريخ التي لم تندمل بعد. لقد قست عليها الجيوبوليتيك، وجعلتها في مهبّ الريح بين الإمبراطوريّة النمساويّة والقوميّة الرومانيّة الناشئة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فتقلّبت هويّة الحاكم بأمر الله فيها بين القيصر النمساويّ والضابط النازيّ والسياسيّ الرومانيّ الذي يسعى إلى توحيد بلاد هي أشبه بالفسيفساء، ويعيش فيها الرومانيّ والهنغاريّ والجرمانيّ والأوكرانيّ واليونانيّ واليهوديّ والغجريّ جنباً إلى جنب. لقد اضطهد مجريّوها، ومعظمهم من الكاثوليك، أصحاب القوميّة الرومانيّة وضيّقوا عليهم. وهم حتّى اليوم لا يشعرون بالحاجة إلى تعلّم لغتهم. فالمدارس الهنغاريّة لا تعلّم الرومانيّة. كذلك لا يجد الرومان غضاضةً في ألّا تكون المجريّة، وهي جزء من تاريخ البلاد، لغةً رسميّة، وتخيفهم دعوة بعض المجريّين إلى هنغاريا «كبرى»، ويواجهون هذا كلّه بقوميّة رومانيّة متطرّفة، وهي طبعاً متخيَّلة وفيها الكثير من التورّم والاختزال. يضاف إلى ذلك أنّ الضابط النازيّ، ومن تحالف معه من الرومان والهنغار، أبادوا معظم يهود كلوج في المحرقة، فتحوّلت اليهوديّة فيها إلى أثر بعد عين. 
الكنائس الحاضرة في كلوج، وهي أرثوذكسيّة وكاثوليكيّة وبروتستانتيّة، تتعايش مع هذا الواقع، وتكاد لا تقوم بأيّ مسعًى يضع الناس على سكّة شفاء تشظّيات الماضي وتشكيل الحاضر عبر مصالحة حقيقيّة بين الأقوام، حتّى إنّ رومانيا تفتقد مجلساً محلّيًّا للكنائس يضع مداميك مثل هذه المقاربة التصالحيّة. هذه الكنائس غالباً ما تكتفي بتمجيد تراثها القديم وتغذية علاقتها المتوتّرة بمن يعيشون على «الهامش» كالغجر والمثليّين والمدافعات عن حقوق النساء. ولعلّ هذا ينسحب بصورة خاصّة على الكنيسة الأرثوذكسيّة، التي تجنح إلى اعتبار ذاتها الكنيسة «الرسميّة» بفعل تفوّقها العدديّ. 

هل تشكّل رومانيا اليوم قنبلةً موقوتةً من جرّاء التلكّؤ في إدارة التنوّع على نحو ذكيّ وخلّاق؟ لا شكّ في أنّ وجودها ضمن الاتّحاد الأوروبيّ يحميها ويحول دون تفجّرها. لكّن أمامها، ولا ريب، درباً طويلاً يستوجب تبدّلات عميقةً في الذهنيّة ومقاربة الواقع المجتمعيّ. حين سألت صديقي الأستاذ الجامعيّ المتقاعد عن سبب نجاح إدارة التنوّع في سويسرا وتعثّرها في رومانيا، أجاب بخفر: «السويسريّون أغنى من الرومان واقتصادهم مزدهر. والغنيّ لا رغبة لديه في إذكاء الصراعات وخوض الحروب. ليس مستغرباً أن يكون الاقتصاد مفتاحاً من مفاتيح صنع السلام». وحين نظرت إلى قسمات وجهه الهادئة، وجدته يبتسم. لم تكن بسمته أقلّ عمقاً من جوابه…