النوّاب «التغييريّون» والوطن الذي يتهاوى

أسعد قطّان
الأحد   2022/10/02
جلسة عامة لانتخاب رئيس الجمهورية
في جلسة انتخاب الرئيس الرابع عشر للجمهوريّة اللبنانيّة التي جرت الخميس الماضي ولم تسفر عن شيء، ارتكب النوّاب «التغييريّون» خطأً أقلّ ما يقال فيه إنّه دعسة ناقصة جدّاً. فقد صوّت معظمهم (يقال إنّ سينتيا زرازير وضعت اسم مهسا أميني) لرجل أعمال ناجح في فرنسا يدعى سليم إدّه، هو ابن الوزير السابق والاختصاصيّ في الشؤون اليهوديّة ميشال إدّه.


السيّد إدّه لم يعلن ترشّحه لرئاسة الجمهوريّة، حتّى إنّ ثمّة من يزعم أنّه أسرّ لبعضهم بعدم ترشّحه. كذلك لم يلمّ أحد برؤيته السياسيّة، هذا إذا افترضنا أنّ هذه الرؤية موجودة فعلاً. وهو لم يُعلم أحداً بمقاربته لشؤون السياسة اللبنانيّة لا في عموميّاتها ولا في تفاصيلها، إلى حدّ أنّ بعضهم اقتبس من أقوال الأب كي يتمكّن من رسم بروفايل سياسيّ للابن. يا للفضيحة! رأى بعضهم أنّ هذا التصويت أتى مخالفاً لروحيّة «المبادرة» التي أطلقها التغييريّون، إذ شعر كثر بأنّهم يُنزلون مرشّحهم على الناس بالباراشوت، وهذه مصيبة. واعتبر آخرون أنّ التغييريّين لا يختلفون عن سائر النوّاب في الخفّة التي تعاملوا فيها مع الاستحقاق الرئاسيّ. فطرحهم لا يبدو جدّيّاً، وهو ليس قابلاً للصرف ولا للحياة. ولعلّه لا يهدف سوى إلى تجنّب الاصطفاف وراء «المعارضين»، الذين صوّتوا للسيّد ميشال معوّض، أو مع فئة الورقة البيضاء، التي اختبأ خلفها «الممانعون». والخفّة طبعاً مصيبة أعظم. 

يبدو التغييريّون اليوم، وقد أتوا إلى الندوة البرلمانيّة من رحم ثورة 17 تشرين المباركة، في مكان لا يُحسدون عليه. هم، إلى حدّ بعيد، أسرى متلازمة الخوف من الاصطفاف. يعرفون، في العمق، أنّه لا يمكنهم التماهي مع مشروع حزب الله وسلاحه، لكون منطق السلاح يخالف منطق الدولة التي يتوقون إلى استرجاعها. لكنّ بعضهم ما زال إلى اليوم يتحاشى كلاماً مباشراً وصريحاً في هذا الشأن. في المقابل، يرفضون الاصطفاف إلى جانب المعارضة، التي بات حزب القوّات اللبنانيّة يمسك بناصيتها. يضاف إلى ذلك أنّ الذين انتخبوا التغييريّين، وقذفوا بهم إلى المجلس النيابيّ كي «يطعّموه» بروح 17 تشرين، لا يمتلكون ترف الوقت. المجتمع الألمانيّ، مثلاً، كان في مقدوره أن ينتظر طويلاً تحوّل حزب «الخضر» من مجموعة معارضة تتّسم بشيء من المراهقة السياسيّة إلى حزب يلمّ بدهاليز السياسة ويفقه منعرجاتها. عمليّة التعلّم هذه استغرقت سنوات. لكنّ لبنان بلد آخذ في الانهيار، ولا وقت فيه للتعلّم، فضلاً عن أنّ مَن يتحكّم في حياته السياسيّة هو مافيا محنّكة تحميها ميليشيا مستشرسة، لا أحزاب «حضاريّة» كما في الدول ذات السجلّ الديمقراطيّ المشرّف. التغييريّون، إذاً، مطالبون بأن يتحرّكوا بسرعة وفاعليّة وبحكمة الحيّات. والحجّة القائلة إنّهم يأتون من خلفيّات مختلفة، ولذا يجب أن نتساهل معهم، انتهت صلاحيّتها بعد نيّف وأربعة أشهر من العمل «المشترك». ليس المطلوب منهم أن يكونوا سوبرمان والرجل الوطواط في آن معاً، فهذا مستحيل. لكن ممنوع عليهم أن يرتكبوا أخطاءً من العيار الثقيل، وهذا ممكن. 

في المبدأ، من حقّ التغييريّين أن يسعوا إلى عدم الاصطفاف. فثورة 17 تشرين قامت على مساءلة الطبقة السياسيّة برمّتها واعتبارها، بمعنًى ما، مسؤولةً، ولو بنسب متفاوتة، عن الانهيار الكبير. على نحو أخصّ، لدى التغييريّين معضلة مثلّثة الأبعاد مع حزب القوّات اللبنانيّة، الذي يتزعّم المعارضة اليوم. فهذا الحزب يتحمّل جزءاً، ولو يسيراً، من مسؤوليّة الكارثة، وهو حتّى اليوم يتحاشى الخوض في تبعات هذه المسؤوليّة وما ينبغي أن تستتبعه من قراءة نقديّة للسنوات الماضية. يضاف إلى ذلك أنّه يعي ذاته بوصفه حزباً للمسيحيّين، وهذا لا يوائم بالضرورة المشروع التغييريّ ذا الصبغة المدنيّة العابرة للطوائف. ثمّة، أخيراً، عامل سيكولوجيّ لا يستهان به يتلخّص في حجم حزب القوّات المتعاظم في الندوة البرلمانيّة بعد الانتخابات الأخيرة، بحيث يمكن تأويل أيّ تلاق معه على أنّه ابتلاع. والتغييريّون يخشون أن تستشري سيناريوهات الابتلاع في صفوف جمهورهم. 

هذه العوامل كلّها تفسّر سلوك التغييريّين، وربّما تدفعنا إلى أن نجد لهم أسباباً تخفيفيّة. لكنّ القضيّة اليوم هي بحجم الوطن، ولا تحتمل متلازمةً من هنا وعقدة خوف من هناك. يمكن للجمهور أن يغفر للتغييريّين هفواتهم «الصغيرة» حين يذهب بعضهم، مثلاً، إلى لقاء للنوّاب السنّة في دار الفتوى، فيما يمتنع آخرون لكون الاجتماع يقوم على مرتكز طائفيّ؛ أو حين تعتبر إحداهنّ رئيس المجلس النيابيّ «مدرسةً» في الممارسة البرلمانيّة، فيما تنتقده أخرى على بطريركيّته المفرطة. والحقّ أنّ مفارقات من هذا النوع لا يمكن تصنيفها في خانة الهفوات، إذ هي تمسّ جوهر المشروع التغييريّ الذي انتُخب التغييريّون من أجله. لكنّ ما حصل في ساحة النجمة الخميس الماضي هو أكثر فداحةً بما لا يقاس. فجلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ليست ألعوبة، ولا هي مكان للبهلوانيّات واختبار الفقّاعات. فليكشف التغييريّون لجمهورهم، بمنتهى الشفافيّة، المنطق الذي ساقهم إلى الزجّ باسم سليم إدّه في اللعبة الانتخابيّة وإقصاء سواه. هل فشلوا، كما تنامى، في الاتّفاق على اسم آخر، فكان اسم إدّه؟ وكيف سمحوا لأنفسهم بقضاء الأسابيع الطوال ينظّرون، وحدهم ومع آخرين، في مواصفات الرئيس، ثمّ أتت جلسة الانتخاب كي «تباغتهم» وتلخبطهم وتظهر لهم أنّ الحديث عن المواصفات من خارج التركيز على أسماء واقعيّة معرّض للتحوّل إلى لغو لا طائل له؟ ماذا كنتم تفعلون أيّها السيّدات والسادة؟ تتسلّون بالناس الذين انتخبوكم؟ وكيف تحوّلت الأسابيع التي سبقت جلسة الانتخاب مساحةً للتلهّي بالأفكار الكبرى (ومعظمها بديهيّ لدى من وضع نصب عينيه استعادة الدولة) عوضاً من طرح الاحتمالات الجدّيّة وجوجلتها بغية التوصّل إلى سيناريوهات واقعيّة تحاكي تاريخيّة اللحظة؟
ليس التغييريّون بأنصاف آلهة، ولا هم معصومون من ارتكاب الأخطاء. لكن آن الأوان أن يدركوا أنّ جولتهم الأولى قد انتهت على كثير من الشرذمة غير المعلنة والتنظير غير المجدي، يقابلها قليل من الشفافيّة، وكثير من الخفّة، وسلوكيّات تافهة تكاد لا تُحتمل. وهم مطالبون في الجولة الثانية بأن يتحوّلوا، بسرعة فائقة، من مجرّد هواة يتفكّهون بالسياسة إلى نوّاب حقيقيّين يدركون مكامن الرهانات ويسمّون الأشياء بأسمائها، بالمختصر المفيد: نوّاب شجعان بحجم وطن يتهاوى…