"قسم المحكومين" لكيهان خانجاني.. رواية إيران المسوّرة

فوزي ذبيان
الجمعة   2022/10/14
من أعمال الفنان الإيراني باباك كاظمي بعنوان "خروج شيرين وفرهاد"
تخالف رواية كيهان خانجاني توقعات القارىء منذ البدايات الأولى للسرد، بل إنها تخالف هذه التوقعات بدءاً من العنوان.

يصرّ الراوي على أن المكان الذي يؤسس لسرده هو مجرد سجن يحوي بعض الصعاليك وشذّاذ الآفاق، بيد أن العين الثالثة للمتلقي حيث تلتقي الكلمات بالمعنى، لا تلبث أن تسترشد حقيقة هذا المكان. إن الأمر بجوهره لا يتعلق بسجن مهمل وعادي في إحدى المدن الإيرانية، إنما "قسم المحكومين" هو إيران الخميني، إيران الملالي الذين يحكمون هذه البلاد حيث "شرح ما هو أقل من القتل لا قيمة له".. في هذا القسم، في هذه البلاد.

لا تستوي مآلات المعنى في هذا العمل انطلاقاً من محض الكلمات المبثوثة بين دفتَيْ الرواية، إذ ثمة دفع لا بد للمتلقي من الإصرار عليه بغية الوقوف على حقيقة قسم المحكومين، أي وبعبارات أمبرتر إيكو، إن متلقي هذا العمل عليه المساهمة في إنطاقه عبر ما يُعرف بـtextual cooperative أي التعضيد النصي، وذلك يكون بتجاوز محض الكلام الذي هو محل تداول فوق ألسنة ناس الرواية.

لا يشي كلام مسجوني "قسم المحكومين" أنهم بصدد زعزعة ما هو قائم داخل أروقة السجن أو ما هو مؤسس تاريخياً بالقوة والعنف، بيد أن تلك اللعثمة التي تتسلّط على ألسنة هؤلاء المسجونين، ثم الشرود الذي يباغت يومياتهم، وصولاً إلى الصمت المطبق والذي غالباً ما يرسم مشهدهم، هذه العناصر كلها تؤشر إلى كيانهم إزاء عنف أولئك الذين يتولون شؤون هذا السجن..."من شدة الوحدة ليس بيننا حتى صرصار يسير على الجدار... تقف في زاوية من الباحة أو بجانب الرصيف وتغرس مخالبك في الجدار المهيب والأسلاك الشائكة وأبراج الحراس".

اللسان المتلعثم، اختلاس النظر، ادعاء النوم، تجنب الآخرين... كلها إشارات تدل على حقيقة ما يجري هنا... "فلكلّ شخص حدوده بيد أن كاميرا المراقبة لا حدود لها" في قسم المحكومين.

على الرغم من عدم صراحة المكان، وما يلازمه من تبعثر وتشظٍّ وضبط وطي في آن معاً، فإنه، وعلى الرغم من كل هذه الضبابية التي تلفه، يشكّل في السياق السردي العام بؤرة دلالية شديدة الكثافة والإنطاق.

إننا إزاء حيّز يبعثر إمكان الإنتماء، ويساهم بقوة في ندرة الحاضر والقضاء على المستقبل، فإذا بناس هذا الحيّز ينطوون على مدى شاسع من العتمة والغموض.

ليس الغموض في "قسم المحكومين" آلية في السرد مُفترَضة مسبقاً من قِبل الراوي، إنما هو من مقتضيات المكان وأصوله. ولعلّ أبرز تجليات هذا الغموض في مجمل العمل، تلك الفتاة التي انوجدتْ داخل قسم المحكومين فجأة، وكانت محل حيرة من قِبل كل النزلاء. بيد أن غموضا آخر يزيد من ضبابية المشهد، وهو المتمثّل في السرد الذي لا يسمح بتلمّس شخصيات أولئك الذين يقومون بإدارة هذا السجن، ولو بالحد الأدنى، وكأني بالراوي أراد لنا عبر هذا الكمين السردي، أن نستشعر أن وجود هؤلاء، وعلى الرغم من كثافته، إنما هو وجود شبحي، وجود في كل مكان وفي لا مكان في الوقت نفسه. فما خلا ذلك الإستغراب الذي أبداه أحد السجناء حيال السماح للمساجين من قِبل سادة السجن، بالدخول إلى عالم الغيب، عبر تناول كل أنواع المخدرات، لا ذِكرَ في الرواية لهؤلاء السادة من قريب أو من بعيد. فناس "قسم المحكومين"، وكما أراد أسياد هذا القسم لهم "يجلسون القرفصاء يراقبون المستجدات، يحركون مسابحهم، يلوون رقابهم والسجائر في أيديهم لا نهاية لها"... فالغيب في هذا المكان هو أفيون السجناء!

إنه المكان الشاسع الضيّق "حيث إمكان الدخول متاح، لكن لا مجال للخروج على الإطلاق". وليس من باب الصدفة في هذا السياق بالذات، استرشاد الراوي بفيلم Papillon المنقول للشاشة عن الرواية الشهيرة لهنري شاريير.

لا فرضيات متناقضة تحوك عملية السرد في "قسم المحكومين"، بيد أن ثمة مفارقات تتجسد بشدة عبر قناعة بعض السجناء بجدوى مكوثهم في هذا المكان بالهيئة التي هو عليها، فإذا بنا إزاء ما يُطلق عليه المفكر الإيراني الراحل داريوش شايغان "الإنتماء المازوشي"، وهي عبارة أراد بها شايغان وصف أولئك الذين ارتضوا الإنضواء ضمن نظام الخميني (داريوش شايغان- النفس المبتورة).

ثمة من أهل التأويل من يرى أن القراءة التي تتجاوز محض المبثوث من كلمات، هي بمثابة تصدعات في الجسم الثقافي للحيز موضوع البحث. ولعل رواية "قسم المحكومين" تشكّل في مجمل مضامينها، واقعة نصية تنسجم كلياً مع هذا التصور عن التأويل. لا يهاجم أي من مسجوني القسم سجّانه، لا يتعرّض له بسوء الكلام، ومع هذا ثمة هامش فسيح للمتلقي للإضاءة على المسكوت عنه فوق ألسنة ناس السجن الذين أقصى إشارة لسجنهم، تكون عبر ذِكرِ تلك الكاميرات المنتشرة بوفرة والتي "ترفع رأسها مثل أفعى تراقب المكان". فالموضوعية في هذا العمل تتأسس على ما يخفيه هؤلاء الذين أدركوا العالم عبر سجنهم المسوّر بإحكام كـ"مشفى للمجانين" حيث "لا فرصة لتطهير الأرواح". ليس الموت هنا محل مساءلة واستجواب، إذ أن الحياة تقع في باب المجاز، في إطار الإفتراض، وهو ما عبّر عنه أحد السجناء بالقول لزميله: "أنت ميت لدرجة لا يمكن معها الذهاب إلى المقبرة بمعية جثتك".

الكلمات الأفصح في قسم المحكومين هي ملامح الوجوه، ذلك التسطيل المتأتي عن تناول الأفيون الذي قد غُضّ النظر عنه، وهي أيضاً لعثمات الحروف بما يذكّر بالغراب "الذي إذا ما سألوه أن يتكلم، اكتفى بالقول: قاق... قاق". وما ينطبق على المكان وعلى الكلمات في هذا الفضاء العبثي، ينطبق أيضاً على الزمن، إذ "ما الفرق عند السجين بين أن يحمل الساعة أو لا يحملها"، فالجدران هنا هي الوقت المبثوث في كل آن.

ينهي الراوي حكايا ناس قسم الحكومين، بالعودة إلى تلك الفتاة الغامضة، تلك "الجنازة المأسورة" كما يسمّيها في أحد مقاطع الكتاب... "كنت أعرف حكايا الكل إلا الفتاة... كأنها كانت معنا منذ البداية وكأنها لم تكن... أحضرتها الريح وأخذتها عاصفة ثلجية".

ثمة تقليد إيراني قديم -كما جاء في الرواية– يقوم على رمي الماء خلف من يسافر في رحلة طويلة، أملاً بعودته سالماً. ينهي خانجاني روايته بشكل ضبابي، ينهيها بباب السجن يُفتح وتلقى بداخله فتاة. لا يخبرنا أن الفتاة ربما هي ذلك الماء الذي يشي بعودة السجناء... لا يبثّ نهاية واضحة ولا يفصح عن مآلات ناس السجن، بيد أن ثمة من قرر في إيران اليوم أن يكمل نص هذا العمل الروائي... ثمة نساء قررن أن يكُنّ الماء الذي يشي بالتخلّص من السجن الهائل والعودة بالبلاد سالمة من رحلة الآلام... النهاية لم تُكتب بعد، فلننتظر الآتي من الأيام.