محمود شقير والكتابة.. المتعة والعذاب

بشير البكر
الإثنين   2022/10/10
الكتابة ليست نهراً هادئاً على الدوام
يقدم الكاتب محمود شقير، بأسلوب حكائي، تجربته في الكتابة، انطلاقاً من تعلم نَسخ الحروف الأبجدية، حتى نيل الشهادة الثانوية والعمل كمدرّس في قرى محافظة رام الله. وكانت البداية من ظهور مجلة "الأفق الجديد" المقدسية، العام 1961، كونها لعبت الدور الأساسي في تشجيع الشاب على كتابة القصة ونشرها. وترك نشر القصة الأولى العام 1962، أثراً مدهشاً في شقير، الذي اندفع لكتابة قصص واقعية مستوحاة من علاقته بالقدس وبقرى الريف الفلسطيني. ويتحدث الكاتب عن الصحافة والثقافة في القدس، في تلك الفترة، ويقول إن أربع صحف يومية كانت تصدر فيها منذ خمسينيات القرن العشرين هي: الجهاد، الدفاع، فلسطين، والمنار. وكانت المدينة تشهد انتعاشاً تجارياً وسياحياً، وازداد عدد الفنادق فيها لاستيعاب حركة السياحة النشطة، وانتشرت المقاهي في مختلف أحيائها، وفي شارعي صلاح الدين والزهراء كانت هناك محال للرقص والغناء يرتادها رجال ونساء. وكانت في المدينة ثلاث دور للسينما، يواظب رجال القدس ونساؤها على حضور الأفلام التي تُعرض فيها كل يوم بانتظام. ويتحدث خصوصاً عن كافتيريا "سندريلا" الواقعة في شارع صلاح الدين، والتي شكلت علامة فارقة في المدينة، إذ تعمل فيها فتاة تقدم الطلبات، وكان الزبائن فيها من الرجال والنساء، على عكس المقاهي الأخرى التي لا تقبل سوى الرجال. وكانت كافتيريا "جروبي" في شارع السلطان سليمان، تقدّم كل أنواع المشروبات. وكلاهما تحول إلى مطعم، بينما أغلقت دور السينما الثلاث بعد احتلال القدس العام 1967.

وتجمع الكتّاب الشباب من حول مجلة "الأفق الجديد" التي بدأت نصف شهرية، ومن ثم تحولت إلى شهرية قبل أن تتوقف عن الصدور العام 1966، وصار يطلق على هؤلاء جيل "الأفق الجديد". وقد ضم هذا الجيل شعراء وقاصّين ونقاداً، وبعضهم اتجه نحو النشاط السياسي، مثل ماجد أبو شرار الذي أصبح عضواً للجنة المركزية لحركة فتح، واغتالته إسرائيل العام 1981، والروائي يحيى يخلف والروائي نمر سرحان والمترجم فايز صياغ والناقد صبحي شحروري. ويعود الفضل في ظهور هذه المجلة إلى مؤسسي صحيفة المنار اليومية، جمعة ومحمود الشريف، إضافة إلى الشاعر أمين شنار الذي كان ذا نزعة إسلامية مستنيرة، وديموقراطياً في تعامله مع الأفكار المختلفة، ولم يكن يضيق بالرأي الآخر.

وكان هذا الجيل قد عمّق ثقافته بما يصله من كتب ومجلات من بيروت والقاهرة، وتركت مجلة "الآداب" أثراً مهماً، كما ترجمات صاحبها سهيل ادريس، وكذلك مجلة "الطليعة" المصرية التي كان يشرف عليها لطفي الخولي، ومجلة "الكاتب" المصرية التي كان يشرف عليها أحمد عباس صالح. وكان اكتشاف شقير قصص زكريا تامر، حدثاً مهماً، فهي عبارة عن "تعبيرية مدهشة"، كما تعرّف على حنا مينة وغادة السمان.

المحطة الفعلية الأولى في حياة شقير، كانت صدور مجموعته القصصية الأولى "خبز الآخرين" العام 1975، وتُعد متأخرة سنوات بسبب هزيمة حزيران التي لخبطت كل شيء، وغيّرت في نظرة الكاتب إلى الكتابة لجهة الموقف الأيديولوجي وإسقاطه بشكل مسبق على مادة الكتابة، وصار يرى في ذلك تقليلاً من القيمة الفنية للكتابة. ويعترف شقير أن الكتابة ليست نهراً هادئاً على الدوام، بل فيها من المتعة بمقدار ما تسببه من عذاب. فهو من خلالها حاول أن يروض نفسه ونفوس مَن حوله ومن يقرأون له، على نبذ التخلف والتعصب وضيق الأفق والانغلاق. كما أنها تصبح جحيماً حين يعجز عن التغلغل في ثناياها والدخول الناجح إلى أسرارها وخفاياها. وكانت الحكاية الشعبية تملأ عليه طفولته، ولم تقتنِ عائلته مذياعاً حتى أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، بعدما تعطّل مذياع جدّه الذي قدمته له سلطات الانتداب البريطاني، باعتباره شيخ عشيرة الشقيرات، وكانت التعليلة (السهرة) التي تشهدها مضافة الجَدّ، وحكايات الجدّة والأم والخال، مصدراً أساسياً لتكوين ذخيرة قصصية.

مارس شقير الكتابة إلى جانب مهنة التدريس التي أحبها بسبب التعامل الحي مع الطلاب، وأثّرت في كتاباته وانعكست في الكتابة للأطفال. وهو سجّل اعترافاً يستحق التأمل، مفاده أن جذوره البدوية هي التي ألهمته ما يرويه عبر الكتابة، وما يرويه يضرب جذوره في معايشة ما تعانيه قبيلته البدوية الشقيرات، وغيرها من العشائر البدوية الفلسطينية، من قلق الانتقال الحضاري من طور إلى آخر، ومن الصراع الناشئ عن ذلك على صعيد الفرد والجماعة، وهو قلق يتمحور حول مقولتين لهما علاقة بالمجتمع والوطن، أي حماية الأرض والمرأة. ومردّ ذلك أن حياة البدو في فلسطين وعلاقتهم بالمأساة الفلسطينية وردود أفعالهم عليها، لم تلق العناية الكافية من الروائيين الفلسطينيين إلا على نحو محدود، وهذا ما حفزه لكتابة ثلاث روايات عن البدو "فرس العائلة"، "مديح لنساء العائلة"، و"ظل آخر للعائلة". لكن ذلك لم يصرفه عن الاهتمام ببيئة القرية والريف في فلسطين، وكذلك مدن فلسطينية وعربية مثل دمشق التي انتسب لجامعتها، وبيروت وعمّان، وهما المدينتان اللتان عاش فيهما منفياً من سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

ويرى شقير أن مجموعته القصصية الأولى "خبز الآخرين" كان لها إسهامها الملموس في تطور القصة الواقعية الفلسطينية، إلا أنه في المجموعة الثانية "الولد الفلسطيني" دخل بالقصة العربية طوراً جديداً من التجريب، ومن خلخلة الأشكال الفنية الراسخة، ومن التخلي عن نزعة اليقين التي كانت تسم اللغة ومضامين القصص في الوقت نفسه. ولذا تأثرت هذه المجموعة بالقصة القصيرة في سوريا ولبنان وبقية البلدان العربية، وكان زكريا تامر من أبرز الكتّاب الذين لفتوا انتباهه. ويروي أنه التقاه في دمشق صيف العام 1963، وكان متألقاً ككاتب قصة بارز على المستوى العربي، وكانت مجموعته الأولى "صهيل الجواد الأبيض" تشكل فتحاً جديداً في كتابة القصة بما اشتملت عليه من سرد شاعري، يضيء ما يعتمل في داخل أبطاله من اغتراب عن المجتمع ومن توتر وأزمات، وما يشعر به الأبطال المهمشون الفقراء من نقمة على المستغلين. وكانت صدمة الدهشة لدى قراءة قصصه "أقبل اليوم السابع" وبعدها "البدوي" و"رحيل إلى البحر"، وحصل التعرف على تامر مع كتّاب آخرين من رواد مقهى "الكمال" مثل ياسين رفاعية وغادة السمان والناقد محيي الدين صبحي. وتطورت العلاقة مع تامر من خلال نشر قصص أطفال في مجلة "أسامة" التي كان يرأس تحريرها، ويضع شقير، تامر، في مصاف الكتّاب الكبار، تشيخوف، موبسان، إدغار آلن بو، بورخيس، يوسف ادريس، كورتاثار، اليس مونرو، وريمون كارفر. ويعتبر أن يوسف ادريس أحد أهم كتاب القصة القصيرة الذين تأثر بهم وتعرف عليهم، ونظم التلفزيون الأردني ندوة حوارية معه بمشاركة الدكتور سمير القطامي وشقير وأدارتها توجان الفيصل. ويعترف بتهيبه أمام الكاميرا والجمهور، ويتحدث عن نخبة عمّان في تلك الفترة وفي طليعتهم عدي مدانات.

ويروي شقير كذلك تعرفه على غسان كنفاني في صحيفة "المحرر" في بيروت العام 1965، وكان متعدد المواهب يرسم، ويسرد القصة والرواية، ويمارس النشاط الصحافي، ويكتب المقالات الأدبية والسياسية، وله دور قيادي في حركة القوميين العرب، قبل أن يصبح بعد هزيمة حزيران عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية، ورئيس تحرير مجلة "الهدف". ويأخذ بقول الناقد الفلسطيني يوسف اليوسف بأن كنفاني "أول كاتب عربي استطاع أن ينقل الكارثة الفلسطينية إلى حيز الرواية، التي يتحقق لها تكامل الشروط الفنية، وفي أنه كان أول من قدم فهماً تطبيقياً عميقاً للتراجيديا".

يتحدث شقير عن القصة القصيرة جداً، الومضة واللقطة والقصيدة الشعرية، وله سبع مجموعات، وكانت حقبة الثمانينيات من القرن الماضي بداية اهتمامه بهذا النوع، وكانت البداية مربكة بسبب تداعيات الوضع الفلسطيني، الذي أبعده عن الإسهاب في السرد إلى الإيقاع السريع. وساعدته في ذلك قراءة ناتالي ساروت ويانيس ريتسوس، لكن التسمية كانت من أول القيود على هذا النوع. ويُعد كتابه "احتمالات طفيفة" محاولة للخروج من المأزق الذي يواجه القصة القصيرة جداً، وذلك باستحضار شخصيات من بطون الكتب غير متصالحة مع زمانها، لتقول إن هموم البشر متشابهة ومأساة الفلسطينيين تستحق أن يتعاطف معها العالم.

ولعبت القصة القصيرة دوراً في تشكيل الأدوات الروائية، وتجلى ذلك في الثلاثية التي كتبها اوائل الثمانينيات، "فرس العائلة" و"مديح لنساء العائلة" و"ظل آخر للعائلة"، والتي ركز فيها على حياة بدو فلسطين، ومدى تأثرهم بالتحولات التي عرفها وطنهم خلال السنوات العشرين الأخيرة.

كتابة قصص الأطفال كانت تجربة أخرى ثرية مع مجلات عديدة مثل "أسامة" ودور نشر مثل "الأهلية"، وهي كتابة ليست سهلة، وبعض القصص شابها شيء من المباشرة ومن نزعة الوعظ. وأنجز ثلاثين كتاباً للأطفال والفتيان، والغاية الأساسية إرضاء الطفل في داخله، والرد على أدب الطفل الإسرائيلي الذي تتضمن نماذج منه عنصرية وحقداً على الفلسطينيين.

ويرى شقير أن سر الكتابة الناجحة هو البحث عن الصوت الخاص والسرد القصصي، الذي يمضي بسلاسة ويُسر من دون تكلف او افتعال، وبما يتوافق مع مزاج الشخصية ووعيها، ووجد أن الحكاية الشعبية والمأثورات واللهجة الدارجة في الحوار وتجسيد ما في البيئة الفلسطينية من خصوصية، يساعد بدوره على تعميق الصوت الخاص. ويكمل ذلك الاشتغال على اللغة، والاقتراب من الشعر وتجريب كتابة القصة القصيرة جداً. وللخشية من السقوط في هوة الخواء، الفضل في استمراره بالكتابة، بالإضافة إلى عدم الرضى تجاه النفس والآخرين. ورغم ذلك أصبح أكثر تبرماً تجاه ما يكتب، وبدأت الأسئلة التي تأخذه من النقيض إلى النقيض حول ما قدمه ككاتب، وجدواه، وما سيبقى منه. وذلك كله يولد قناعة بأن الكتابة مراوغة لا تسلس قيادتها بسهولة ويُسر، وكان قرار إنهاء الخدمة في التدريس، والاكتفاء بالراتب التقاعدي والاعتكاف في البيت، منعشاً للمخيلة والكتابة. ذلك ان تفرغ الكاتب يهبه القدرة على الانفصال عما هو يومي، ويحول الكتابة إلى عادة يومية. وكانت العودة إلى الوطن في العام 1993 ولادة كتابة سردية يظهر المكان فيها على نحو ملموس كما في مجموعة "صورة شاكيرا"، التي حمل عنوانها اشتباكاً من نوع مع ما تحمله العولمة من إشارات لثقافة استهلاكية تصنع النجم الفرد. ويقول: "حين كنت في السجن لم أتكمن من الكتابة"، راوده إحساس بأن المساحات الضيقة والغرف التي لا تدخلها الشمس والجدران الصفراء الكالحة تجعل ممارسة الكتابة من الصعوبة بمكان. لكنه في العام 1998 تناول هذه التجربة في كتابه "ظل آخر للمدينة".

وللقدس مكانة خاصة في قصص شقير، فهي المكان الذي تنطلق منه قصصه ورواياته وتعود إليه، وما يعنيه هو العودة من الاستعارة إلى الواقع، حيث إنها تتعرض للتهويد والتبديد، ويواجه أهلها مخاطر تمزق الهوية وضياعها، وقد تغدو خلال سنوات مدينة أخرى. وبالتالي يحضر الاستيطان ومصادرة الأراضي وجدار الفصل العنصري والاعتداء على المقدسات الدينية، باعتبار ذلك ضمن مخطط طمس الهوية.

كتابة المسلسلات التلفزيونية الطويلة أثر في كتابة القصة القصيرة لجهة التقشف في اللغة والتكثيف والشاعرية، وأخطر تهديد للقصة أنها فن سهل يمكن مزاولته ببساطة ومن دون جهد يذكر. لكن على الكاتب أن يجدد أدواته باستمرار، وهذا سر حصول تطور في كتابة القصة، يعبّر عنه الفارق بين قصص زكريا تامر ومحمد خضير وعدي مدانات وإبراهيم درغوثي وقصص محمود تيمور، التي كتبت في بداية القرن العشرين، وذلك على مستوى السرد واللغة والشكل. ويبقى أن شقير يعتقد أن تحويل الكتابة إلى لعبة ممتعة مقصودة لذاتها، هو أفضل ما يمكننا فعله لكي نأتي دوماً بكل جديد. لذلك لم يستقر على شكل وأسلوب ونمط واحد، بل تنقل كثيراً، وقادته التجربة في الأعوام الأخيرة إلى القصة الساخرة، وهي ما يفرد له مساحة خاصة في سيرته الأدبية الموسعة، والتي كتبها بخفة وسلاسة، وصدرت عن دار "لوسيل" في الدوحة، تحت عنوان "أنا والكتابة: من ألف باء اللغة إلى بحر الكلمات".