"صنايعية مصر 2": ذاكرة تجيد الاحتفاء وحده

شادي لويس
السبت   2022/01/08
في الجزء الثاني من كتابه "صنايعية مصر"، الصادر عن دار الكرمة المصرية مطلع العام، يعود عمر طاهر للعمل على واحدة من تيماته المفضلة، أي النوستالجيا. ساحة الحنين الواسعة، التي تزدحم داخلها صنوف من الكتابة ومستوياتها، يقاربها طاهر بذكاء، فيفكك الماضي إلى عناصره الأولية والبسيطة: أكياس الشيبسي، والمناديل الورقية، والأحذية الكوتشي، وكتب طبخ "أبلة نظيرة" وصوتها في الإذاعة ورائحة كولونيا "خمس خمسات"، مذاقات وصور ومعمار وأصوات وحاسة شم لتاريخ يومي ومحسوس. لا يدعي طاهر لنفسه صفة المؤرخ، إلا أن ما يكتبه تأريخ بلا شك، تاريخ يمكن وصفه بالجماهيري أو السيار، أو غير المتخصص أو النوعي أو المبسط، لكنه يظل تاريخاً، وواسع التأثير أيضاً.

يتجاوز "صنايعية مصر" التاريخ المدرسي، الهابط من أعلى والقائم على سِيَر الشخصيات الكبرى والتحولات الكبرى، مقدماً ما يمكن اعتباره تاريخاً ثقافياً أو أنثروبولوجياً. إلا أن تلك النوايا الحسنة، تنزلق مباشرة إلى فخ الفردانية، أي إلى تدوين متمحور حول الفرد. صحيح أن أبطال طاهر لا ينتمون إلى الصفوف الأولى للحدث التاريخي، إلا أن معظمهم، مع هذا، ينتمي إلى صفوفه المتقدمة. لا يهبط طاهر إلى القاع ليكتب تاريخاً شعبياً، بل يتراجع فقط بضعة صفوف من القمة. مرادفة "صنايعية" المستخدمة في عنوان الكتاب، والملازمة لكل فصوله، يشوبها التضليل، على الأغلب من دون قصد. فالكثير من أبطال الكتاب، إما رأسماليون، ملاك لخطوط إنتاج أو أنشطة شبه احتكارية وماركات تنتمي إلى تراث "الرأسمالة الوطنية"، أو وجوه ثقافية شهيرة أو نصف شهيرة هم بشكل أو بآخر جزء من دولاب الدولة، وبالأخص الدولة الناصرية.

وإضفاء صفة الصنايعية، المرتبطة بالشغيلة اليدويين وفئات بعينها من العاملين بالأجر، على شخصيات الكتاب، يفرض طبقة من سوء الفهم بطريقتين. فبإطلاقها على رجال أعمال من أصحاب الماركات "الوطنية" يتماهي مع الأسطورة الرأسمالية، التي تشرعن رأسمال وتحتفي به، وتعتبر تراكمه استحقاقاً لروح الابتكار و"الصنعة" والمبادرة لدى رجال الأعمال، وبهذا تتم التعمية ضمناً على عناصر الاستغلال والاحتكار المتضمنة في عمليات الإنتاج والاستهلاك.

وفي إطلاق صفة الصنايعية على بعض من وجوه الثقافة الجماهيرية ومنتجيها، يقتلع مفهوم "الصنعة" عملية انتاج الثقافة من سياقها السياسي والبيروقراطي، لتبدو وكأنها عملية تقنية أو فنية حصراً، وتتعلق بالجماليات وحدها. هكذا يقدم "صنايعية مصر" تاريخاً بلا سياسة ولا اقتصاد، وبالأخص بلا صنايعية. 
 
لا يتعلق الأمر بكتاب طاهر وحده، بل يمكننا إلقاء اللوم على النوستالجيا. الحنين ينتج صنفاً بعينه من التاريخ، عبر ذاكرة مصفاة وانتقائية، وبالأخص في أوقات يكون فيها الحاضر مأزوماً والمستقبل مستغلقاً. فبحسب تعريفها الأبسط، النوستالجيا هي ولع بالماضي وأحداثه وأفراده. لذا فهي لا تجيد سوى الاحتفاء بالماضي، بتذكر الإيجابي منه، وصبغ ما يؤلم فيه ببعض اللذة، والأهم إضفاء مجد مصطنع على العادي والأقل من العادي.

في العام الماضي، أصدر الباحثان، محمد رمضان وبدر النور، كتابهما "عيش مرحرح: اقتصاد سياسي للسيادة على الغذاء في مصر". وفي جزء منه يقوم الكتاب بعرض تاريخ معقد وطويل وسريع التغير لزراعة البطاطس في مصر واستهلاكها، ترتبط فيها دولة محمد علي، برأس المال الخليجي، واتفاقية التجارة العالمية، بسوء التغذية في مصر وعائلة ساويرس، وتتداخل أنظمة الاحتكار والاستغلال المحلية والعالمية مع عمليات نزع القيمة من الريف المصري لصالح الحضر، ومن دول الجنوب لصالح الشمال. وفي القلب من هذا كله، تظهر شركة "شيبسي" مع شركات إنتاج شرائح البطاطس المقلية، كنقطة تقاطع بين مئات النقاط في شبكة كبيرة لعمليات الاستغلال والاحتكار والإفقار الاقتصادي والغذائي، الممنهجة على مستوى محلي ومعولم. 

يخصص الجزء الثاني من كتاب "صنايعية مصر"، هو أيضاً، فصلاً لشركة "شيبسي"، ويركن فيه إلى ذاكرة أجيال ارتبطت فيها علامتها التجارية بطفولتهم ومباهجها والحنين إليها، ويكتفي بالاحتفاء بالجانب الرأسمالي للماركة، بأسطول النقل والثلاجات وأنظمة التغليف، وبالـ"عصف الذهني" لعبد العزيز علي وشركاه (ملاك الشركة)، واستعانتهم بمراكز البحوث الهولندية والمحلية، وغيرها من عناصر عمليات الإنتاج.

لا تستطيع النوستالجيا أن تكون نقدية، وربما سيكون من غير المنصف مطالبتها بأكثر من الاحتفاء بالماضي.