من السخرية الى التقزز

روجيه عوطة
الأربعاء   2022/01/05
"بينيدتا"
رغم أن الأفلام الأربعة، "بينيدتا" و"جولي" و"ماتريكس"(الجزء الرابع) و"فرانس"، مختلفة عن بعضها البعض في الغالب، إلا أنها فعلياً تشترك في شيء محدد. بالطبع، يمكن إطالة لائحة الأفلام، وإضافة المزيد من الشرائط عليها، بالإنطلاق من كونها تحتوي جميعها على ذلك المشترك، الذي يمكن تقديمه عبر الإشارة الى مشهد شائع داخلها. فها هي جولي، وفي أثناء خوضها لبطولتها الدرامية، تجلس مع حبيبها في الحمّام، فيصدران معاً أصواتاً معوية. المشهد نفسه ينسحب على الراهبة الثائرة بينيدتا في حين خروجها على الدير وسلطته، وبعدها، هناك فرانس وزوجها خلال تحملهما بؤس نمط عيشهما. كما أن نيو، هذا بطل القديم، أو بالأحرى المتقادم، في "ماتريكس"، يعيد ويكرر ما فعلته هذه الشخصيات جميعها. هذا المشهد، وفي الغالب من أوقات إدراجه في أفلامه، يتصف بكون صنّاعه يقصدون منه أن ينطوي على سخرية ما، لكنه، ومع إخراجه لسخريته هذه، سرعان ما يترك في متلقيه أثراً بعينه، وهو التقزز.

بدايةً، لا بد من التوقف على قصد صناع هذا المشهد، على نيتهم منه، أي تعيين محله من إعراب أفلامهم باعتباره عنواناً للسخرية. ما هي هذه السخرية؟ يمكن إبداؤها على أساس كونها توقف السيناريو، بوقائعه، بأجوائه، عليها من أجل الإشارة إلى كونه يشتمل على ما يكشف عن كونه نافلاً. قد يكون إبداء السخرية هكذا عويصاً ربما، لهذا، أقدم موقف واضح حولها: في أثناء دوران فيلم مثل "بنيديتا" أو "ماتريكس" حول بطولة شخصياتها، وفي أثناء رواية هذه البطولة، تنتقل الشخصيات هذه الى مشهدها الحمامي، وعندها، تنصرف من حكاياتها، أو تصرفها لتصير نافلة، أي زائدة على موضعهما الحاضر، حيث لا مكان لها فيه، إنما هو المكان لقضائها بالتحديد. ففي هذا المشهد، تقول الشخصيات أن حكاياتها شبيهة بالبقايا من جهة كون التخلّص منها، القفز فوقها، الابتعاد عن أخذها على محمل الجد، ليس سوى ممكن. وبالتالي، تبدل الشخصيات صلتها بهذه الحكايات، وفعلها هذا أقرب الى كونه بتراً لهذه الصلة من دون تحقيقه، لا سيما أن الشخصيات تعود لاحقاً الى الحكايات، ولا تغادرها بالكامل. فتصرف الحكايات عنها، او بالتحديد منها، من دون تركها، وبين الفعلين، تجعلها موضوعاً للسخرية.

فعلياً، هذه السخرية قد تتسم بكونها رائعة بمعنى أنها، وبجمالية ما، تفتح كوة في الأفلام التي تنطوي عليها، كما لو أن شخصياتها هي على مسافة ما منها، لا لكي تنقدها، أو لكي تطيحها، إنما لتبين أنها قادرة على احتواء وجهة نظر أخرى داخلها: وجهة نظر تقدّم حكاياتها نافلة صحيح، لكنها- وباستخدام فعل ليس بعيداً من المشهد ذاته ربما- تعمد إلى تهوئتها، الى "تظريف" كثافتها، أي جعلها ظريفة لكي لا تنقلب الى غلاظة، ولو بإسم البطولة! هذه السخرية، وفي هذا السياق، تحيل الى غيرها في الأدب. ففي رواية "زازي في الميترو" لريمون كينو، وإن كانت ذاكرتي نشيطة، تتوقف شخصيتها الرئيسة في مشهد، وتتحدث مع الراوي من باب تقريعه، وشتمه، قبل أن تستكمل مغامرتها في باريس. على هذا النحو، هي أيضاً تبدل صلتها بكل حكايتها لوقت قصير للغاية قبل أن تستكملها. بالتأكيد، في هذه الحال، السخرية هي أقرب الى الفكاهة من باب أنها تتيح، وبخفة، تخطي قاعدة سردية عامة، وهي أن الشخصية لا تتحدّث في العادة مع راويها. وهذا، ما لا يحضر في السخرية الفيلمية تلك، التي لا تشوبها أي فكاهة، إذ إن شخصياتها لا تتيح، وبخفة أم لا، تخطي قاعدة سينمائية ما، إنما تنسحب من حكاياتها، وتهملها، في حين البقاء داخلها. فقيمتها ليس قيمة تخطي القاعدة، إنما قيمة إهمال لحكاية.

لكن السخرية الفيلمية هذه، ومثلما يقدمها أصحابها، سرعان ما تطرح إشكالية معينة، وهي كونها، وفي اثناء بترها لصلتها بالحكاية، وقبل أن ترجع اليها (يمكن الحديث عن بتر مُرَمِّم أو بتر مرآب للصلة)، تغدو، وبمشهدها، موضوعاً للتقزز. بعد الاستفهام عن السخرية، استفهام عن التقزز: ما هذا التقزز الذي تنتجه السخرية؟

قد يكون التمييز ضرورياً هنا بين قصد صنّاع المشهد اياه، وإرادتهم. فالمخرجون يقصدون منه أن يكون ساخراً، لكنهم، وبالفعل نفسه، يبينون أنهم مسكونون بإرادتهم التي تفيد بكونهم يركنون الى السخرية من أجل كتم شيء ما في أفلامهم. فبالتوازي مع بتر شخصياتهم لصلتها مع حكاياتها، هم يضعون هذا البتر في خدمة كتمهم ذاك. ففي نواحٍ داخل تلك الحكايات، داخل العمل عليها، يصطدمون بخلاء فيها، نتيجة أن سردها قد نضب، وردّ فعلهم على هذا الخلاء هو الاستعجال في تبديده بالإستناد الى السخرية. بطريقة أخرى: بدلاً من أن يجدوا في الخلاء جزءاً من الحكايات، من صناعتها، الذي قد يصل إلى مكان ما وينتهي عنده، أي يخلو من قدرته، يُقدِمون على ردم هذا الخلاء بالسخرية، ما يجعل هذه السخرية سخرية كاتمة.

فمن جهة، الشخصيات هي سخرية مهملة للحكايات، أما من جهة المخرجين، فهي سخرية كاتمة للخلاء في هذه الحكايات. وعن أي شيء يصدر التقزز في هذا المطاف إذاً؟ حين يعمد المخرجون الى كتم الخلاء الذي تنتجه الحكايات هم فعلياً يردّون ما فضل منها، أي الخلاء نفسه، اليها، وعندها، تصير مؤلفة من فضلاتها. بالتالي، التقزز لا يصدر حيال ما ينطوي عليه مشهد السخرية، أي الدخول الى الحمّام وتوابعه، انما حيال رد الخلاء الى تلك الحكايات، ومنعها عنه. إذ تصل الى خاتمتها لتخلو، فتُكتم، وحينها، ترجع ما فضل منها، ترجع فضلاتها اليها، وتتكون منها. كما لو أن شخصياتها تنتقل في مشهدها الى الحمام كي لا تنتقل هي الى بيت الخلاء، وتصرفها وصناعها عنها. فالسخرية المقززة ليست سوى سخرية على الضد من حكاياتها لأنها تدفعها الى الاستمرار رغم أنها نضبت، وقد حان وقت تركها وشأنها.