بيوت بعلبك المصابة بالطاعون

محمد شرف
الأربعاء   2022/01/05
بيوت مهجورة في بعلبك
كان حواراً متلفزاً شاهدناه في إحدى سنوات تسعينيات القرن المنصرم، وهو من الحوارات التي يُعاد بثها من حين إلى آخر نظراً لموقعها من الناحية الوثائقيّة. تطرّق موضوع الحوار إلى مشاهد الدمار في الوسط التجاري لبيروت إبان الحرب الأهلية، وقبل إعادة إعماره على النحو الذي نراه الآن. لم يكن الموضوع سياسياً أو إقتصادياً، بل طاول نواحي جماليّة، وكان أحد أطراف ذاك الحوار صحافية أو كاتبة، قالت حينذاك: أنا أرى في هذا الدمار جمالاً من نوع خاص، في حين يراه معظم الناس خراباً ليس إلاّ.

وجهة نظر جمالية ذات طابع سوريالي؟ ربما. وفي مجال التشكيل تحديداً انعكس الدمار والخراب لوحات ورسوماً نراها في أكثر من مكان وزمان. دمار ساحة البرج، كما كانت تسمّى، والمباني المحيطة بها، تمّ بأيدٍ إنسانية، وهذا الوضع ينسحب على ستالينغراد، وأجزاء من برلين ومدن أخرى. دمار صار جزءاً من التاريخ، وما زلنا نرى بعض تجلياته في صور فوتوغرافية، وأفلام وثائقية تشهد على الفظاعات وآلات القتل والخوف والجنون، وتذكّرنا بمآس لم يتعلّم العالم منها الشيء الكثير، إذ صار، في وقتنا الحاضر، يتقن لغة الحرب ويطوّرها، بعدما أضاف إلى معاجمها ألفاظاً تكنولوجيّة و"حداثة قتالية"، يقوم بصياغتها مجانين جدد.

بعيداً من ستالينغراد ووارسو، كان "أوتيل عربيد" في مدينة بعلبك، التي لم تتعدّ مساحتها حينذاك مساحة حي صغير في برلين. تشير الصورة شبه الوحيدة المحفوظة في الأرشيف إلى تسمية المكان: "اللوكندة الجديدة الكبرى عربيد". شاء التاريخ والمصادفة أن ينتهي عهد الأوتيل مع نهاية الحرب العالمية الثانية، العام 1945. كان الفندق الصغير، الذي اعتبره أصحابه كبيراً نسبة إلى مقاسات ذاك الزمن، مؤلّفاً من طبقتين تتوزّع فيهما غرفه، وطبقة سفلية ربما كانت تُستعمل كمستودعات أو مرابط للخيل. لم نعثر على أحد من سكان المدينة ممن عايشوا تلك الحقبة وما زالوا على قيد الحياة، كي يحدّثنا عن الفندق وتفاصيله. التقينا بعض الأشخاص الذين كانوا أطفالاً حين كانت أبواب النزل مفتوحة أمام الزبائن. لذا، فإننا نستدل على بعض التفاصيل المعمارية من خلال الصورة اليتيمة المذكورة، وربما توافرت صور أخرى لم نستطع الوصول إليها. في كل الأحوال، كان الفندق الصغير يستقبل السياح الأجانب وضباط الجيشين الفرنسي والإنكليزي، إبان حقبة الإنتداب، إضافة إلى بعض زوار المدينة القادمين من مناطق أخرى. 

حي قديم في بعلبك

يروي أحد أقاربي، وكان حينذاك في سن ما قبل المراهقة، أنه عمد مع بعض أقرانه إلى سرقة الخس من بساتين المدينة، القريبة من الأوتيل وحتى المحاذية له، والتي اشتُهرت بخصوبة تربتها، من أجل بيعه للسياح الأجانب المحبين للمنتجات الزراعية الطبيعية، والعارفين بأمور الأطعمة والخضر البيولوجية، قبل عقود من انتشار الحديث عن التلوّث والمواد الكيميائية. لم يتعرّض أوتيل عربيد لقذائف، ولم يطاوله الرصاص، فبعلبك كانت مدينة هادئة وتنعم بسكون لم يعكّر صفوه سوى بعض المناوشات الواقعة، من حين إلى آخر، بين قبضايات آل المصري، وعلى رأسهم أبو علي ملحم قاسم، والجيش الفرنسي، وذلك في مناطق جردية قريبة من المدينة. لكن الأوتيل هُجر بعد رحيل الفرنسيين، إثر إعلان إستقلال لبنان، واستسلم من دون قتال ليموت ببطء، إثر تعرّضه لمرض غير معروف. قال لي عمّي، قبل أن ينتقل إلى العالم الآخر، أن الأوتيل خلا بداية من الزبائن، ثم من كل أنواع الأثاث، وبعدها من الشبابيك. صار معتماً ومثيراً للخوف وخالياً إلا من روث الماعز والأغنام والروائح الكريهة، نتيجة تحوّله بيت خلاء واسع الأرجاء.

بعد اختفاء الأبواب والشبابيك، إنهار سقف الأوتيل، فأودى بسقف الطبقة السفلى أيضاً، وتزعزعت الجدران الداخلية وتساقطت حجارتها. لم نشهد شخصياً هذا الإنهيار، كما لا نعلم شيئاً عن الحقبة الزمنية التي حدث خلالها، إضافة إلى أن أحداً لم يلاحظ الواقعة. ارتكزنا في تحليلنا إلى تصوراتنا المنطقية، المرتكزة إلى تجارب تاريخية معمارية، تفيد بأن السقوف هي العنصر الأكثر هشاشة، خصوصاً كَون المرتكزات التي يقوم عليها هذا النوع من السقوف مصنوعة من الخشب الذي يتأثر بالعوامل الطبيعية والمناخية أكثر من سواه. الغريب في الأمر إن المدينة لم تشهد هزّات زلزالية في ذلك الحين، بل يعود تاريخ آخر هزّة إلى العام 1759، حين تهدّم بعض منازل بعلبك، وإنهارت ثلاثة أعمدة من هيكل جوبيتير على مصاف الستة الباقية، و"قُتل جرّاء الزلزال رجلان في المدينة"، بحسب المؤرخ ميخائيل ألوف. كان عدد الضحايا متدنياً قياساً إلى زلزال كبير، لحسن الحظ، وربما يعود السبب لكون بيوت المدينة قليلة الإرتفاع، ويتألّف معظمها من طبقة واحدة.

إنهار الأوتيل، من دون ملاحظة امتداد الفترة الزمنية التي تحوّل البناء خلالها خراباً وركاماً. لكننا نقدّر أن حجارة الأوتيل سُرقت من مكانها تدريجاً، ولم يعترض أحد على هذه السرقة. استُعملت الحجارة، المنحوتة في شكل هندسي، على عكس الحجارة "الغشيمة"، كما تسمّى محلّياً، في مبان أخرى قريبة، أو بعيدة منه. بيد أنها كانت حجارة مريضة، إذ يبدو أن عدوى الهجر والخراب إنتقلت إلى تلك البيوت. مرض غريب لا شأن له بكوفيد 19، الذي نشهد إنتشاره في أيامنا هذه، فهذا المرض كان ينتقل ببطء وإستغرق تفشيه عشرات السنين.

لم يخطر في بالنا سوى الطاعون. وقع الكلمة أقوى من سواها، كما نعتقد، وتعيدنا إلى القرن الرابع عشر، حين أطاح الطاعون الأسود سكان مدنٍ بكاملها في أوروبا، وأوحى للفنّان الفلامنكي بيتر بروغل لوحته الشهيرة "انتصار الموت". إنهارت بيوت في المدينة كما إنهار أناس في أوروبا في الطرق، وأحرقت جثثهم خوفاً من تفشّي المرض. كان سقوط البيوت يتسارع بعدما هجرها سكانها، إثر شعورها بكآبة طاغية، وبوحدة قاتلة نتيجة غياب البشر الذين إحتوتهم جدرانها. كانت الحرب سبباً في رحيل السكان أحياناً، وكان الإنتقال إلى بيوت أخرى "حديثة" سبباً آخر، أكثر حدّة، أدّى إلى ترك المنازل القديمة. تبيّن، إستناداً إلى ما ذُكر، إن مرض الطاعون، المستتبع بكآبة الأحياء والحجر، يصيب البيوت أيضاً.

عرفت البيوت أنها صارت "دقّة قديمة". الإهمال الذي أصابها، بعدما تراجع إهتمام أصحابها بها، بيّن لها هذه الحقيقة الجارحة. كانت، في الماضي، تُبنى من حجارة مختلفة الأشكال والأحجام، وحتى الألوان. حجار جُمعت من كل حدب وصوب، مع ما تحمله من رائحة التراب والأعشاب، تنتج منها جدران فسيفسائية، ذات أشكال وألوان متنوّعة. أُطلقت على من يقوم بعملية البناء تسمية "معلّم حجر غشيم"، نسبة إلى التسمية الشعبية المذكورة سلفاً، علماً أن هذه العملية لم تقتصر دائماً على فرد واحد، بل كان يتشارك فيها أصحاب البيت مع المعلّم، ويدلون بآرائهم ونصائحهم. كان يجري تطيين الجدران بعد ذلك بمزيج من التراب والتبن المخلوط مع الماء، ثم تُطلى بالكلس الأبيض، أو ببودرة بيضاء تُشتق من الحجر الكلسي الطباشيري، لتتخذ بعدها صفة "بيوت الطين"، ولتبدو كأقمشة بيضاء مخرّمة بأبواب ونوافذ صغيرة. بيوت تبدو وكأنها من صنع الطبيعة ذاتها، وقد كان أنطونيو غاودي، المهندس الكاتالوني الشهير، مصمم "ساغرادا فاميليا" في برشلونة، قد أشار إلى هذا الأمر المتعلّق بالطبيعة والمحيط حين قال: "نحن لا نبتكر شيئاً، لأن الطبيعة كانت كتبت الأشياء كلّها. إن الإبتكار يتحدد دائماً بكيفية العودة إلى الجذور".

انتصبت البيوت على خلفية المشهد الطبيعي البقاعي ذي اللون الأقرب إلى الإحمرار. أحجام بيضاء تتناقض لونياً مع الأخضر ومع الأحمر- البني، بفضل نوعية التراب المزوّد بفلزّات صلصالية تساعد في تماسك المزيج الطيني. مزيج يلتصق بالجدران ولا يفارقها إلاّ بفعل الجفاف الناتج من مناخ جبلي تزيده أشعة الشمس قوّة. شمس تشوي رؤوس السكان وطبقة الطين من دون حاجة إلى فرن حراري لهذه الغاية.

كان أبو يحيى، الذي يرقص "الدبكة العرجاء" أيضاً، وأبو مصطفى وغيرهما، من معلمي البناء الغشيم. لكنهما تقاعدا، قبل إنتقالهما إلى العالم الآخر، وتقاعد كثر سواهم منذ زمن بعيد، بعدما قدِم الباطون في موكب مهيب ليحلّ محل الحجار والباطون والكلس. إزداد حزن البيوت القديمة، وتحوّل مرضها، سالف الذِّكر، وباءً مزمناً لا علاج له، وبدأت تتهاوى ويقل عدد نماذجها الواقفة على رجليها. صارت، بكل بساطة، أطلالاً(*).

لم يبقَ من أوتيل عربيد سوى جداران قليلة الإرتفاع ومتآكلة في أجزائها العليا، وقد نبتت الأعشاب من حولها. مشاهد تصلح مادة لرسوم تضم أطلالاً وخرائب، كتلك التي أولع برسمها الفنان الإيطالي جيوفاني باتيستا بيرانيزي. (لدى مرورنا قرب المكان في الآونة الأخيرة لم نرَ سوى كومة صغيرة من الحجارة لا ترتقي إلى صفة جدار، ولا شك لدينا في أنها ستُزال بدورها قريباً).

كان السكان يخشون الإقتراب من المنازل المتداعية، ومن الأوتيل أيضاً، خوفاً من حجارتها المتساقطة، وخوفاً ربما من انتقال المرض إليهم. لكن، في الوقت الحاضر، لم يعد المارّون يولون إنتباهاً لتلك البقعة من الأرض التي تخفيها لوحات إعلانية من مختلف الأصناف، كما لا تعلم غالبيتهم الساحقة بأن بناءً قام، ذات يوم، في تلك البقعة. لم نعد نرى حتى ذاك الجمال المفترض في الدمار، بل أخيلة لجنود وسائحين لم يبقَ أحد منهم على قيد الحياة. 

(*) كنت قابلتُ أبا يحيى لدى عملي على موضوع شهادة الدكتوراه الذي إتخذ من البيوت التراثية البقاعية موضوعاً للبحث، وذلك من ضمن العمل الميداني الذي قمت به، وسجّلت ملاحظاته وذكرياته. ومن جهة أخرى فإن غالبية البيوت التي قمت بدراستها حينذاك لم تعد قائمة. انقرض معظمها، ما عدا قلة قليلة منها لا يسكنها أحد في الوقت الحاضر، وهي في حالة لا تُحسد عليها، وانتقل أبو يحيى إلى العالم الآخر منذ فترة، حاملاً معه بعض أسرار الدبكة وطريقة البناء.