"تقاطعات جينية": تاريخ علوم الوراثة في الشرق الأوسط

شادي لويس
السبت   2022/01/22
لعبت أساطير النقاء العرقي والتجانس الجيني دوراً محورياً في رسم الخرائط الاستعمارية
في العام 1912، أصدر الكاتب اللبناني جرجي زيدان كتابه "طبقات الأمم والسلائل البشرية"، ناقلاً فيه عدداً من الأفكار والنظريات التطورية والعرقية، التي كانت رائجة في الغرب مطلع القرن العشرين. يحيل عنوان الكتاب إلى كتاب آخر يعود إلى القرن الحادي عشر، هو "طبقات الأمم" لصاعد الأندلسي. وما يفعله زيدان مع العنوان، يمتد إلى مضمونه الذي يزخر بمصطلحات تراثية، مثل العنصر والعرق والسلالة والقوم والشعب والملّة والأمة، ويوظف زيدان تلك المفردات لترجمة وشرح نظريات حديثة تتعلق بعِلم الأعراق والأنثروبولوجيا التطورية، وفي تلك العملية يمنح التقسيمات التراثية والتراتبيات القائمة، معنىً جديداً، ويدعم بنى ثقافية تاريخية بأسانيد لها صفة العِلمية، لتبدو ثابتة وفوق تاريخية. 

تشير المؤرخة الكندية، إليز بيرتون، في كتابها "تقاطعات جينية: الشرق الأوسط والوراثة البشرية"(*)، إلى كتاب زيدان، بوصفه من أوائل الأعمال العربية المتعلقة بعِلم الأعراق. إلا أن البداية التي ينطلق منها كتابها ترجع إلى أبعد من هذا، فبحسبها يسجل العام 1870 نقطة البداية للعلوم الوراثية في الشرق الأوسط، مع تسجيل عدد من العلماء الغربيين لمقاييس جماجم مكتشفة في مواقع للحفريات الأثرية في تدمر ومناطق أخرى في سوريا، في سياق مشروع غربي ضخم لقياس وتصنيف أبعاد جماجم وأجساد سكان هلال الخصيب. 

عبر التنقيب في ثلاثين أرشيف في تسع دول، بالعربية والفارسية والتركية والعبرية ولغات أوروبية أخرى، تقدم بيرتون عملاً موسوعياً، هو الأول من نوعه لتأريخ علوم الوراثة في المنطقة، وعلاقتها ببنية الهويات الأثنية والعرقية والوطنية، مع فحص الطرق التي صاغت بها تلك الهويات أسئلة البحث العلمي وفسرت بياناتها، في فترة الاستعمار ولاحقاً في عقود الدولة الوطنية المستقلة، وصولاً إلى المشاريع الحالية لرسم خريطة الجينوم البشري برعاية المنظمات الصحية الدولية. 

يتناول الكتاب مدى واسعاً من التخصصات، الانثروبولوجيا الجسدية والبيولوجيا التطورية والكيمياء العضوية والطب وعلم الجينات وتخصصات أمراض الدم وغيرها، ليعرض المحاولات الحثيثة لفك شيفرة النص الأزلي الكامنة في جينات الوراثة البشرية، وكتابة تاريخ جيني للأرض. بحسب بيرتون، اجتذب الشرق الأوسط اهتمام علم الوراثة الغربيين لأسباب عديدة، فالمنطقة تعدّ معبراً للهجرات البشرية والاختلاط السلالي عبر التاريخ بين قارات العالم القديم، واعتُبرت أقلياتها وجماعاتها الأثنية المعزولة، مستودعاتٍ بشرية للتركيب الجيني "النقي" وفرصة سانحة لدراسة أصول الأجناس البشرية وخريطة هجراتها وتمازجها. 

بشكل جلي، تبرز محورية الأفكار الاستشراقية في صياغة النظريات والبحوث العلمية في مجال الوراثة في المنطقة. فمحاولات تثبيت الماضي البشري في جين الجماعة المعزولة، تضافرت مع تمجيد التاريخ ما قبل الإسلامي، وتصوير الطوائف المسيحية في الشام والأقباط في مصر على أنهم الأصل الجيني الأكثر نقاء في مقابل الغالبية من المسلمين، التي تمثل الخليط غير النقي والهجين والدخيل. في السياق الصهيوني، لعبت الأبحاث على الأمراض الوراثية، مثل فقر الدم المنجلي وأنيميا الفول، أدواراً متناقضة. فمن ناحية، سعى علماء إسرائيليون لاختلاق جنس يهودي، أو معين جيني مشترك، ومن ناحية أخرى، حاول هؤلاء العلماء انفسهم، المتحدرون من أصول اشكنازية، تأكيد تراتبية عرقية بين اليهود، فتفترض سلسلة من الدراسات أن يهود اليمن لهم "دماء زنجية".

لعبت أساطير النقاء العرقي والتجانس الجيني دوراً محورياً في رسم الخرائط الاستعمارية، فالسلطات الفرنسية استخدمت نظرية الأصول الفينيقية النقية للموارنة لترسيم حدود لبنان، وهو ما سيمتد تأثيره لاحقاً بطول التاريخ الطائفي للدولة اللبنانية وحروبها الأهلية. وبشكل موازٍ، تطور ما تطلق عليه بيرتون مصطلح "الوطنية البيولوجية"، أي استخدام الوسائل الطبية للإجابة على أسئلة تتعلق بالجغرافيا والتاريخ وحسم صراعات على مناطق وجماعات بشرية. في ذلك السياق، يستعرض الكتاب سلسلة من الدراسات وبحوث مؤسسات الدولة التركية الهادفة لإثبات "الطورانية" بيولوجياً، فلا يتم الاكتفاء بتأكيد أوروبية "الجنس التركي"، بل أيضاً أنه أصل كل الأعراق القوقازية في أوروبا. وبالتوازي، يتم نفي أي تنوع إثني داخل حدود الدولة التركية، فمع ضم لواء الاسكندرونة على سبيل المثال، تتراكم الأبحاث التي تثبت نسبة سكانه الناطقين بالعربية إلى المعين الجيني التركي، وهو ما يتكرر مع الأكراد أيضاً. تحدث عملية مماثلة في المؤسسات العلمية في إيران، فمع الاعتراف بالتنوع الإثني داخل حدود الدولة، يتم ربط كل الأقليات بالجنس "الآري"، فإيران أيضاً هي أصل كل الأجناس البيضاء، الهندو أوروبية. أما في مصر، فالبحوث التي قام بها أعضاء في إرساليات بروتستانتية، لإثبات الفوارق الجينية بين الأقباط والمسلمين، أي ترسيخ الهويات الدينية بمنحها أسس بيولوجية ثابتة تاريخياً، تقابلها أبحاث لعلماء مصريين تثبت العكس، أي انتفاء أي فروق ذات دلالة بين المجموعتين. 

لا يتماهي العلم بالسياسة فقط، بل بالعنف أيضاً، بصوره المادية والمعنوية. يرسم "تقاطعات جينية" صورة لشبكات استعمارية وشبه استعمارية لتجميع عينات الدم، وشحنها إلى المركز الأوروبي، شبكة تعتمد على عمليات الاستغلال الضمني أحياناً، والعنف المباشر أحياناً أخرى. ففي السعودية على سبيل المثال، جمعت شركات "أرامكو"، خلال النصف الأول من القرن العشرين، عينات دم من بين العاملين فيها، واستخراج بياناتهم الاجتماعية من سجلات الشركة من دون علمهم. وفي جزيرة سقطرى، انتزعت الإدارة البريطانية العسكرية عينات الدم من المواطنين أثناء إجراء الفحوص الطبية الدورية، ومن ثمّ شُحن الدم إلى المعامل البحثية في لندن. يشكل العام 1967، نقطة فارقة. فمع رحيل القوى الاستعمارية القديمة عن المنطقة (أجلى البريطانيون آخر قواتهم عن سقطرى في هذا العام)، توقفت شحنات الدم إلى المركز الأوروبي. لكن، وفي العام نفسه، وبفعل توسع إسرائيل العسكري في دول الجوار، أعيد تشكيل الشبكة الاستعمارية لعلوم الوراثة في الشرق الأوسط. ترصد بيرتون، التوسع الهائل في الأبحاث الجينية الإسرائيلية على سكان المناطق المحتلة، بدو سيناء والسامريين في الضفة الغربية، وسكان الجولان، بالإضافة إلى السكان الفلسطينيين داخل إسرائيل. تحولت دولة الاحتلال إلى "جنة لعلوم الوارثة" بنفاذيتها لمعين جيني هائل بقوة السلاح، ودفع ذلك إلى ترقية هيئاتها العلمية من مجرد مؤسسات تابعة للمراكز الغربية، إلى شريك بل وصاحب مركز الصدارة في المجال ودوائره الأكاديمية والتطبيقية. 

يختتم الكتاب فصوله بمسح لمشروع قاعدة بينات الجينوم البشري، الذي تضع أولوياته وتديره المؤسسات الغربية، ويقوم باحثو المنطقة ومؤسساتها الطبية بدور الوسطاء وجمع البيانات الخام، في إعادة إنتاج للبُنى الكولونيالية التقليدية. في النهاية، تقرّ بيرتون بأن التكنولوجيا الحديثة قادرة على إمدادنا بالكثير من المعارف عن التركيب الجيني للبشر وتاريخهم البيولوجي، إلا أن كل ما يمكن أن نصل إليه عن الماضي يظل محكوما بلغة آنية، وتبقى المعرفة العلمية المعاصرة أسيرة بُنى إيديولوجية ونتاج فوارق هائلة في القوى. 

(*) صدر بالإنكليزية نهاية العام 2021 لدى جامعة ستانفورد.