"العزيزة فلسطين": كيف تكتب تاريخاً بقراءة البريد

شادي لويس
السبت   2022/01/01
التطهير العرقي

بين عامي 2001 و2008، عمل المؤرخ والمستشرق شاي حزقاني، كمراسل حربي تلفزيوني وإذاعي يغطي عمليات الاحتلال في الضفة وغزة. باعترافه، كان حينها صغيراً في السن وساذجاً. لكن وأثناء عمله على تقرير مصور قصير عن صفقة الأسلحة الألمانية لإسرائيل التي تمت في العام 1958، يعثر بالصدفة على وثيقة "غريبة" في الأرشيف العسكري الإسرائيلي. ملف يحمل عنوان "آراء الجنود"، جُمِع من الخطابات الشخصية للجنود الإسرائيليين، بواسطة منظومة يطلق عليها هو "الأخ الأكبر". كان التلصص على بريد الجنود الإسرائيليين، بواسطة الرقيب العسكري، وقراءته وكتابه التقارير عن محتواه ممارسة دورية، استمرت حتى العام 1998. بعد شهور قليلة من اكتشافه، ونسخ عشرات الرسائل والتقارير من الأرشيف، سيغادر حزقاني مع تلك الوثائق إلى الولايات المتحدة، ليبدأ بحثاً أكاديميا حولها لينال درجة الدكتوراة... وسينخرط لاحقاً في العمل الحقوقي المطالب بكشف الدولة الإسرائيلية عن الأرشيف العسكري المتعلق بجرائمها ضد الفلسطينيين والعرب، وبالعنصرية ضد اليهود الشرقيين.

في مقدمة كتابه، "العزيزة فلسطين: تاريخ اجتماعي لحرب 48" (صادر بالإنكليزية عن جامعة ستانفورد، هذا العام)، يتعرض حزقاني لسيرة عبدالله داود، المتطوع العراقي اليهودي، الذي سيخوض الحرب، في صفوف جيش الإنقاذ العربي ضد القوات الصهيونية، وسيشارك في الهجوم على كيبوتز مشمار هعميق، والذي يعد واحداً من أهم نقط التحول في مسار المعارك. وقبل إعلان الهدنة بقليل، يعود دواد إلى العراق، لكن تبعات الحرب التي شارك فيها إلى جانب مواطنيه العرب هي ما ستدفعه هو وألوف من يهود الدول العربية إلى المغادرة. في العام 1950 سيهاجر دواد إلى إسرائيل، وسيستقر فيها حتى وفاته بعد فترة قصيرة من احتلال القوات العراقية للكويت.

يقر حزقاني، في الفصول اللاحقة، بأن داود نموذج استثنائي، ولا يجوز القياس عليه، إلا أن سيرته، بالرغم من هذا، تظل كاشفة عن الطبيعة المعقدة لحرب 48، بشكل يزعزع الرواية السائدة والحدية التي ترسم خط مواجهة بين اليهود من جانب والعرب من جانب آخر. على تلك الخلفية، ينقب كتاب "العزيزة فلسطين" داخل أرشيف الرقابة الإسرائيلية على البريد، في خطابات الجنود الإسرائيليين، وفي خطابات متطوعي "جيش الإنقاذ العربي"، دون رغبة في معرفة "الأحداث الحقيقية" للحرب أو مسارات معاركها، بل ردود أفعال الجنود العاديين، مشاعرهم وأفكارهم، هم والضحايا، بهدف كتابة تاريخ من أسفل، تاريخ اجتماعي للحرب وللواقع الذي خلقته بعدها.

التوسع في تدوين التأريخ الشفوي الفلسطيني للنكسة منذ السبعينات منحنا صورة غنية بالتفاصيل، إلا أن ما يميز "العزيزة فلسطين" هو تحييده لألاعيب الذاكرة والحنين والنسيان وغيرها من عوامل الزمن، تقبض نصوص الخطابات على اللحظة التاريخية وتبسطها أمامنا للفحص والتأمل. لا يعني هذا أن البريد بالضرورة أصدق من الذاكرة، فمعظم كتاب الرسائل كانوا على دراية بتلصص الرقيب على خطاباتهم، وبثوا فيها ما يرضيه أو على الأقل ما يكفي للسماح بتمريرها إلي المرسل إليه.

لذا، لا يكتفي حزقاني بالخطابات، بل يفتش كذلك في سجلات التعليم السياسي في وحدات الجيش الإسرائيلي وفرق جيش الإنقاذ العربي، نصوص الدعاية الحربية لدى الطرفين، وتقارير المخابرات ومحاضر اجتماعات القيادات العسكرية الوسيطة والدنيا. يكشف الكتاب عن طرق تجنيد جيش الدفاع للمتطوعين اليهود من حول العالم، تلك التي تضمنت عمليات اضطهاد وعنف بدني مارستها الوكالة اليهودية في معسكرات الناجين من الهولوكوست في أوروبا، لإرغامهم على السفر إلى فلسطين والالتحاق بالقوات الصهيونية. على العكس من الرواية الإسرائيلية، لم يكن القتال من أجل إقامة الدولة اليهودية اختيارياً، وكذا البقاء فيها بعد نهاية الحرب لم يكن أمراً طوعياً بالضرورة. فالكتاب يستعرض عشرات الرسائل من جنود يهود من شمال أفريقيا، يحذرون ذويهم في المغرب العربي وأوروبا من الهجرة إلى إسرائيل أو يطلبون منهم المساعدة لتسهيل عودتهم إلي بلادهم، بعد أن صادرت السلطات الإسرائيلية جوازات سفرهم لإرغامهم على البقاء.

وبمراجعة وثائق جيش الإنقاذ، يبرىء الكتاب القوات العربية من تهم التشرّب بالأفكار الفاشية ومعاداة السامية، بل على العكس يكشف عن خطاب "إنساني" قائم على دعوة للتعايش بين السكان من عرب ويهود في دولة للجميع. في المقابل، لا يترك مجالاً للشك في نوايا التطهير العرقي لدى الجانب الصهيوني منذ بداية الحرب، فكلمات "الإبادة" و"الاقتلاع" تتكرر بكثافة مخيفة في نصوص الدعاية العسكرية الإسرائيلية، وكتيبات تدريب الجنود، وخطاباتهم المبتهجة بعمليات القتل الواسع أو تلك المصدومة بسبب ما آل إليه حلم الدولة اليهودية من بربرية وشهوة للدم خرجت عن السيطرة.

لا يقدم حزقاني مفاجآت كبرى، إلا أن كتابه في استشهاد بعد آخر، ومن وثيقة تلو أخرى، ومن داخل الأرشيف الإسرائيلي نفسه، يعيد بث الحياة في تفاصيل النكسة، بكل تفاصيل الخسارة والألم والرعب، ولعل واحدة من أكثر تلك اللحظات بساطة وأكثر شاعرية، تتبدى حين يكتب أحد اللاجئين الفلسطينيين إلى قريب له بقى في الداخل بعد الحرب، يسأله: "ما أخبار البرتقال عندكم؟ نحن نفتقده، لا يمكن أن تجد مثله في أي مكان آخر".