الفلسفة الفرنسية المعاصرة.. قارّية ضد التجهيل والتزمّت

علي عبدون
الأربعاء   2021/09/08
الفلسفة الفرنسية المعاصرة (اتجاهاتها ومذاهبها وإسهاماتها)، عنوان موسوعة فلسفية صدرت مؤخرًا الجزء الأول منها باللغة العربية عن دار صوفيا ـ الكويت، من إعداد مشير باسيل عون. وقد حمل هذا الجزء عنوان "فلسفات البنيوية والتفكيك والاختلاف". وقد بيّن مشير عون في مقدمته الأسباب الموجبة التي دعته إلى اختيار الفلسفة الفرنسية المعاصرة بالذات، وذلك لما تنطوي عليه من تناقضات مهمة، وتختص بأشد مراتب التفكير بناءً وتنظيماً وتعليلاً وتماسكاً منطقياً، وفيها أخطر مواضع النّقد والثوران والمعاندة والمشاكسة تفكيكاً وتشتيتاً ونقضاً وهدفاً.

هذا الجزء هو باكورة مشروع فلسفي ضخم ومميز، سيتبعه في مراحل لاحقة إصدار تسعة أجزاء، ستتناول كافة فروع الفلسفة الفرنسية المعاصرة والإشكالات التي عالجتها كالفنومنولوجيا وتفرعاتها والفسارة الفلسفية، الفلسفات التفكرية والشخصانية والوجودية، فلسفات تاريخ الفلسفة، الفلسفات التاريخية التفكيكية، تيارات الفلسفة المسيحية، الفلسفات الاجتماعية والنفسية والتربوية والأخلاقية، الفلسفات السياسية والإقتصادية والقانونية والبيئية والإعلامية، وفلسفات العلوم والطبيعة والإبيستمولوجيا.

نحن إذاً أمام فضاء بحثي فلسفي رصين، شاركت فيه نخبة أكاديمية من الباحثين المتخصصين من لبنان والعالم العربي، حيث انصهرت جهودهم الشخصية في مشروع معرفي جماعي انطلق من لبنان ليرفد المكتبة العربية بأهم الطروحات والتصورات التي أنتجها فلاسفة القرن العشرين في فرنسا، والذين أسهموا في تحديث مجتمعاتهم الفرنسية والأوروبية وتطويرها من خلال مدها بطروحات فكرية ساعدت في إثرائها في كافة المجالات المعرفية والإجتماعية والسياسية. ولم يكن ذلك ليحصل إلا بامتلاكهم ذهنًا ثاقبًا باحثًا عن الحقيقة وفق منهج علمي محايد أنتجته التجارب الإنسانية. 

إذاً تقدم لنا هذه الموسوعة  الفلسفة الفرنسية المعاصرة كفلسفة قارية عالمية شأنها شأن الفلسفة الألمانية التي حضر فلاسفتها بقوة في طروحات المفكرين الفرنسيين. وهذا ما يجعلها تتجاوز حدود جغرافيا الفكر الفرنسي لتصل تأثيراتها إلى أنحاء العالم، من خلال تناولها قضايا الإنسان الراهن والموضوعات والتساؤلات التي شغلت تفكيره في مختلف المجالات الثقافية والفلسفية. لذلك فإن التعرف إلى الفكر الفرنسي يعني بالضرورة الخروج من الصورة النمطية عن المفكرين الفرنسيين التي أرستها الوقائع التاريخية والسياسية في عالمنا العربي، كذلك يسهم هذا المشروع في الحد من القطيعة الجزئية مع الفلسفة الأوروبية ومن ضمنها الفرنسية التي فرضتها المدارس الفكرية الأيديولوجية الإسلامية الراديكالية منذ بدايات انتشار الديكارتية كمنهج للبحث المعرفي القائم على إعلاء شأن العقل على النقل.

أضف إلى ذلك أن هذا المشروع يكسر حاجز اللغة عند قارئ العربية ويزيل من أمامه كل العوائق التي فرضتها سلطة السائد من خلال ممارسة الهيمنة المطلقة ومصادرة الآراء ومنع التفكير، فتضعه أمام تراث فكري كبير، ومعرفة إنسانية تنتسب للعقل وتحتكم للمنطق، من خلال أبحاث رصينة لا تهدف إلى التعريف بالفلاسفة فقط، بل ترصد كذلك الأثر الذي تنطوي عليه أفكارهم، وتتبع الاستثمارات الفكرية والحقول المعرفية الإشكالية التي اشتغلوا عليها.

هكذا يتحول هذا المشروع الرصين إلى سلاح معرفي ضد مفهوم التجهيل والأيديولوجيات المتزمتة التي ترفض الفكر المختلف تحت حجج الهوية والدين والأصالة التي مازالت تستمد طروحاتها الفكرية من قرون خلت وتفرض ثقافتها الضيقة في عالم الحداثة والتطور.

وتسهم هذه الموسوعة في سد فجوة معرفية وتوفر رافداً يمكن من خلاله إثراء حركة البحث العلمي العربي الذي هو الوسيلة الأمثل التي يمكن من خلالها التوصل إلى حل للمشكلات الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها عالمنا العربي من خلال اكتشاف حقائق جديدة واستنباط القوانين والنظريات. وذلك يكون عن طريق الولوج إلى عالم تتبارز فيه الطروحات الفلسفية بمذاهبها واتجاهاتها المتنوعة، فالفلسفة الفرنسية المعاصرة هي واحدة من طرق الولوج إلى تاريخ الحقيقة التي تتقاسمها البشرية، وضرورة حاسمة للانفتاح والتطور كيما نصل إلى "مجتمع المعرفة" وتحقيق التنمية الثقافية والحضارية والعلمية عن طريق الاطلاع على ما ينتجه الآخرون، وإلا تخلفنا عن مواكبة التطور المتواصل وبقينا جثثاً هامدة بين الركام.

ختاماً يوضح مشير عون، في معرض تقديمه هذا المشروع، الغاية الكبرى المرجوة منه في عالمنا العربي، الذي يقبع في مهواة الدمار والعقم والبوار، الأمر الذي يجعل من المجتمعات العربية مغلولة الأيدي ومسلوبة الإرادة، وتغرق في سبات الخمول والتخدر، لذلك آن الآوان لإحداث قطعية مع هذا الواقع وامتلاك الجرأة الفكرية للتحرر منه والإنتفاض عليه ولا يكون ذلك إلا بالرفض والنقض والتمرد على كل مظاهر التخلف والرجعية والتصالح مع روح العصر وإنجازاته ولا يكون ذلك إلا بانتهاك فكري يزحزح اليقينيات والتصورات المطلقة السائدة باستخدام أسس الفلسفة كأداة خلاصية تحريرية من هذا الثبات الدوغمائي.