معرض الشرق غير المتوقع: النبش في المقتنيات الأوروبية المهملة

علي سفر
الإثنين   2021/09/20
من المعرض
تستضيف المكتبة الوطنية لجامعة ستراسبورغ معرض "الشرق غير المتوقع، من نهر الراين إلى نهر السند"، وذلك في إطار دعوة معرفية وفنية وسياسية، لإلقاء نظرة جديدة على التاريخ، من زاوية العلاقات مع الشرق وبالتحديد مع البلاد الإسلامية.

المعرض الذي تقدم محتوياته مؤسسات عريقة، كمتاحف المدينة ومتحف اللوفر في باريس، يفتح أمام زائره فضاءً مختلفاً لجهة بنائه لسينوغرافيا خاصة، تحاول جعل الرؤية ممتعة، وغنية بالدلالات، حيث تُدمج الأقواس الخشبية مع صور كبيرة لشخصيات مستلة من الكتب القديمة، ومن رسوم الرحالة والمستشرقين. وفي الوقت نفسه، تضيف اللوحات الشارحة، معلومات ثرية، يجمعها دليل المعرض الذي يمكن للزائر اقتناؤه مقابل مبلغ رمزي، يدخل في سياق دعوة القائمين عليه لتقديم التبرعات من أجل استمرار الباحثين في عملهم، ضمن الإطار الذي يحاول تقريب المسافات بين فضائي الشرق والغرب، اللذين، بقدر ما يجمعهما التاريخ المشترك، تفرقهما التفاصيل السياسية، والتحالفات، والمصالح، والأديان.

يحاول المعرض، الذي أشرف عليه كل من الباحثين نوران بن عزونة وكلود لورينتز، تقديم مدخلٍ لقراءة التاريخ المشترك من خلال أطر ثلاثة، هي تمثيلات الشرق الإسلامي في منطقة الراين وبشكل خاص في الألزاس، وأيضاً استقباله وتأثيره في العلوم والآداب والفنون، وأخيراً آثار هذا الاستقبال في المجموعات الإقليمية والوطنية.

فقد جمعت محتويات المعرض أكثر من 250 قطعة من مجموعات موزعة على حوالي ثلاثين دولة: كمتحف Land du Bade-Wurtemberg (شتوتغارت)، متحف Bartholdi (كولمار)، متحف طباعة الأقمشة (مولوز)، متاحف الفنون الزخرفية (ستراسبورغ)، وغيرها.

الباحث الفرنسي داميان كولون، أستاذ التاريخ في جامعة ستراسبورغ، تحدث لـ"المدن" عن أهمية المقتنيات المعروضة هنا فقال: "معرض الشرق غير المتوقع في المكتبة الوطنية لجامعة ستراسبورغ يمتاز بكونه يخرج عدداً من الصور والأعمال الفنية، من مخازن المتاحف ومن رفوف مكتبات الألزاس، واللوفر، وألمانيا، حيث بقيت لفترة طويلة من الزمن مهملة وغير مستثمرة. مجموع هذه المقتنيات التي أخرجت، يبدو خليطاً، لكنه يمثل وجهات نظر مختلفة، عن الشرق المسلم، كما يظهر تعددية المصالح، التي أثارها عبر الأزمنة في منطقة الراين الأعلى: أعمال عن الطب، والفلك، والمعارف حول الإسلام، وقطع العملة، والنقش على الحجر، والقماش، والتصوير، وغيرها".

أضاف: "بعض هذه المقتنيات قديم العهد، ويمتد عمره إلى القرون الوسطى، ووصل إلى مجموعات في المكتبات الشريكة للمعرض، بعد فترة طويلة من صناعت، كهذا الاسطرلاب الساحر المصنوع في مراكش بين العامين 1208 و1209، وأُحضر إلى الكنيسة البروتستانتية سان توما في ستراسبورغ بتاريخ مجهول للأسف، لكنه حكماً يقع قبل العام 1719".

ويقول كولون إن "الفترات المتعاقبة لدخول هذه المقتنيات إلى المؤسسات المختلفة، تدل على الاهتمام المتصاعد من جهة منطقة الراين الأعلى، بكل ما يخص الشرق المسلم، حيث لم يكن حضوره في القرون الوسطى سوى صدى بعيد ومشوه بسبب الحروب الصليبية، إلا أن صورته بدأت تتضح وتكتمل شيئاً فشيئاً إلى حد الوصول إلى مرحلة الافتتان الرومانسي بهذا الشرق في القرن التاسع عشر".

وضمن مسار الاستفادة من حضور هذه العناصر التي تجتمع للمرة الأولى في مكان واحد، سيقدم القائمون على المعرض تفاصيل مادية ومعرفية، تقوم على ست عتبات، تجمعها عناوين مغرية للتأمل، هي "الأرض المقدسة بعيدة ومشتركة"، و"العلوم العربية الإسلامية: إرث مثير للجدل"، و"أسلحة وزهور" و"نظرات جديدة نحو الشرق في القرن التاسع عشر"، و"الشرق كزخرفة"، و"استكشافات، علوم، ومجموعات أثرية".

فتبدأ رحلة الزائر للمعرض بقراءة علاقة منطقة الألزاس وحوض الراين مع الشرق و"الأرض المقدسة"، بوصفها الأرض/ الحلم، حيث اندفع رجال المنطقة للمشاركة في الحروب الصليبية، والتي انتهت في المحصلة إلى خلق عملية تبادل، لم تقتصر على التجارة، بل اشتركت فيها فكرة الحج إلى الشرق مع نقل المعارف والأفكار.

كما تشكل العلوم العربية الإسلامية عتبة ثانية، فقد كانت لستراسبورغ بوصفها حاضرة إقليم الراين وعاصمة للألزاس بالإضافة للمدن الأخرى، أدوار في نقل هذه المعارف، وترجمتها، وهنا يبرز هذا التراكم من خلال تذكر آثار معرفية وثقافية مهمة، تمت ترجمتها على أيدي علماء ومستشرقي المنطقة، مثل "الحكمة المشرقية" لابن سينا، وقصص "كليلة ودمنة" للهندي بيدبا، إضافة لمؤلفات عديدة تتوزع بين الطب وعلم الفلك وغيرها.



يمتد سياق المتابعة في المعرض ليصل إلى مرحلة التوسع العثماني في أوروبا، والذي شكل هاجساً مخيفاً في بداياته للأوروبيين، لكنه انعكس لاحقاً في الحياة العامة من خلال التبادل الحضاري الذي يجري بشكل طبيعي رغماً عن إرادة القادة والسياسيين المتحاربين. وهو الذي احتاج إلى قوة دافعة ليكبر ويتوسع، شكلتها حملة نابليون بونابرت في مصر. والأخيرة لم تنتج فقط كتباً مهمة مثل "وصف مصر" الذي طُبع في العام 1809، بل فتحت طريق الرحلة السحرية أمام المستشرقين، وأيضاً أمام فئات التجار والصناعيين، الذين نقلوا، مثلاً، الزخارف الشرقية، ليدمجوها في ثورتهم الصناعية، التي احتضنتها مدينة مولوز الألزاسية، بعدما صارت منذ القرن الثامن عشر مركزاً عالمياً لإنتاج الأقمشة.

وتبعاً لمثل هذا التبادل، وأيضاً في سياق جهد السياسة الإمبريالية الطموحة، تطورت، بحسب القائمين على المعرض، المعرفة الأكاديمية في ستراسبورغ حول الشرق، من علم المصريات إلى الهند، حيث أصبحت الجامعة والمكتبة الإمبراطورية منذ العام 1871 رأس حربة، متقدمة في هذا المجال.

وبحسب الباحث داميان كولون، فإن هذا المعرض تم التحضير له من قبل مُدرّسة في قسم التاريخ والفنون الإسلامية، تعمل حديثاً مع جامعة ستراسبورغ، في قسم العوالم الإسلامية الذي شيّد العام 2016، بهدف معرفتها ودراستها وفهمها، بشكل أعمق وأكبر، في إحدى العواصم الأوروبية.

(*) يستمر معرض "الشرق غير المتوقع، من نهر الراين إلى نهر السند" إلى 16 يناير 2022، وهو متاح للزوار مجاناً، في مقر المكتبة الوطنية لجامعة ستراسبورغ، الكائنة في ساحة الجمهورية.