"الموتيف" في الأعمال الفنيّة: التكرار، الاختلاف، المراوحة

محمد شرف
الخميس   2021/09/16
كلود فيالا
اعتدتُ أن أوجّه سؤالاً بعينه إلى الطلبة الجدد في حصة الرسم الأثري، من أجل الإطلاع المبدئي على تصوّراتهم البديهية حيال مسألة من المسائل، والسؤال هو: ما هي أهم مزايا الزخرفة؟ فتتعدد الإجابات، كما هي الحال في مواقف مماثلة، من دون أن يعثر أحد على الإجابة الصحيحة، وهي: التكرار.

المقصود هنا هو تكرار الموتيف نفسه مرّات عديدة، وبحسب ما هو مطلوب، وما يسمح به الحيّز المحدود، وهو تكرار يشبه النسخ الحرفي، أو هو النسخ المثالي، إذ إن حضور الفرق بين الوحدات المكوّنة للعمل الزخرفي، ومهما كانت بسيطة، من شأنه أن يخرّب العمل، أو يشوّهه. لنتصوّر مثلاً إفريزاً يونانيّاً أو رومانيّا مصاباً بهذه اللوثة، فسيكون حينها موضع اهتمام أكثر من أي إفريز مكتمل، وستُصاغ حوله نظريات ومداخلات لا تنتهي. من الأمثلة البارزة على ذلك (ولو عمدنا إلى الإستطراد)، الطنف والإفريز والكورنيش التي تعلو الأعمدة الستة الباقية من هيكل جوبيتير في بعلبك، والتي افتقدت جزءاً، أو قطعة، من العناصر المذكورة في الأعلى، فصارت تبدو كمن فقد سنّاً من أسنانه الأمامية. أما القطعة التي سقطت بفعل الزلازل، فهي تقبع عند قاعدة الدكة التي بُني فوقها المعبد، وأبرز ما فيها رأس أسد فاغراً فاه، يتحلّق حوله السياح من أجل التقاط صورة تذكارية، في حين أن قلّة منهم تعلم مكان القطعة الأصلي. 

لكن التكرار في الأعمال الفنيّة يختلف، في طبيعة الحال، عمّا سبق ذكره، إضافة إلى أن مفهومه، أو الحديث عنه، قد يتفرّغ في أكثر من إتجاه. ثمة تكرار مقصود في ذاته، وثمة نوع آخر ينمّ عن جمود ومراوحة، وربما كان هناك نوع ثالث يحدث من غير قصد. كرر آندي وارهول علب الـ"Campbell's soup" ، وكان أول من قام بهذه الخطوة، التي حوّلت غرضاً سخيفاً إلى موضوعا فنيّ. أصبحت علب الحساء هذه رمزاً لأميركا، حيث استبدت النزعة الإستهلاكية ببلد يهرب إلى الأمام، عمل القائمون عليه على جعل شراء الأشياء، أو إستدانة ثمنها من المصارف، سلوى تنسي الشعب كل ما يدور حوله، وتجعل، على سبيل المثل، خمسين في المئة من سكان البلد يجهلون من ربح الحرب العالمية الثانية.

على هذا الأساس يمكن النظر، أيضاً، إلى قبّعات رينيه ماغريت، وحبّات الفاصوليا لدى كلود فيالا، وقلوب جيم دين، وحتى حبّات البازلاء لدى الفنانة يوي كوزاما. نيل توروني، مثلاً، كان بنى هويته الفنيّة على أساس التكرار، إذ إنه، خلال مسيرته الفنية، أعاد إستعمال الحركات نفسها، من خلال رسم أشكال بسيطة أقرب إلى المربع على الجدران، أو على قماشات كبيرة الحجم غطت المساحات العامة، كما جدران متحف الفنون المعاصرة في مدينة باريس. وإذ نرى هذه المفردات المتكررة في أعمال الفنانين المذكورين، نتساءل إذا ما كان الرسّامون يخفون أنفسهم أم يكشفونها، من خلال هذا النمط الذي يشبه الحرف المتكرر مراراً، ربما كانوا يأملون إنشاء أبجدية حقيقية يوماً ما.

لم يبتعد بعض فنانينا المحليين عن هذه النزعة، ولو جاءت على نحو مختلف، ولم تكن واضحة في أحيان كثيرة، كونها لم تؤدِّ الهدف المرجو منها، إذ لم ينجح سوى جزء منهم (لا حاجة لذكر أسمائهم) في إيلاء تكرار الموتيف بُعداً قد يكون رمزياً، أو فلسفياً، وذلك في مواقف معيّنة. هذا، في حين أن التكرار هنا يطاول مسألة أخرى، إذ لا نتحدّث عن إعادة رسم الموتيف في سبيل الحصول على تأليف محكم للعمل كان يدور في رأس الصانع، بل عن "تقليد" لأعمال سابقة كانت صادفت نجاحاً، كبيراً أو صغيراً. في هذا الوضع يمكن النظر إلى هذا السلوك كالنظر إلى من عثر على لقيّة، بعد جهد أو بالصدفة، ويصعب عليه التخلّي عنها، مخافة ألا يصيب في حال سلوكه دروباً أخرى في البحث والتجارب.

موقفان جماليان متعارضان
في هذا النطاق، يمكن القول إن من يتتبع، بشكل منتظم وليس موسمياً، ما يدور في الساحة الفنية من إرهاصات الفن المعاصر، يصبح في إمكانه التمييز، بوضوح تام، بين نوعين رئيسيين من الأعمال: تلك التي يبدو أنها توقفت في مكانها، محاصرة بتكرار شكلاني، وعلى نقيض ذلك قد نجد أعمالاً "تتحرك" في تطور دائم، بحيث يصبح كل إنجاز جديد ذا فردية وموقع، هما بمثابة قيمة مضافة للمسيرة الديناميكية الإبداعية للفنان. إن الحركة من ناحية، أو توقف العملية الإبداعية من ناحية أخرى، والفردية المختلفة من جهة، أو إعادة إنتاج الأشياء ذاتها وتكرار الأعمال من جهة أخرى، هما، في تجلياتهما العملية، موقفان جماليان متعارضان.

وفي هذا الزمن الذي يتغير خلاله العالم من جميع النواحي، وحيث تنتشر الأشياء والمعلومات بسرعة فائقة تصيب المرء بالغثيان، وفيما تفعل الموضة فعلها في مختلف مجالات النشاط الإنساني، نصادف غالبًا أعمالًا لفنانين، أجانب أو محليين، كانت نجحت خلال السنوات الماضية، وهي تعلن الرفض القاطع، الذي لا رجعة فيه، للمبادئ الشكلية التي استنفدت بسبب تكرارها، من دون أن يكون ذلك موقفاً شرعياً معلناً للمقاومة الفنية تجاه الجنون المتحكّم بالعالم.

فالفنّان الفرنسي كلود فيالا، وبعدما حرر تصويراته من النقّالة والإطار، من طريق نزع دور القماشة كحاملة للون، قام بجعلها، على هذا الأساس، مادة جمالية في حد ذاتها. من أجل تحقيق هذا الهدف عمد فيالا إلى "طبع" أشكال لونية على القماشة مستعملاً الإسفنجة بدلاً من الفرشاة. ساعد هذا الأسلوب على منح أعمال الفنان فردية خاصة من خلال عبر عملية التنفيذ بداية، ثم من خلال الشكل والمادة. ولكن، وبالرغم من أن نتاج فيالا وابتكاراته اعتُبرت إنجازاً في حينه، تبين أن ليس في إمكانه تخطّيها، كما لو أنها سترة جمالية يصعب خلعها والتخلّي عنها.

ويمكن القول إن "النظام" الفني، الذي تمتّع بقوّة نقدية منذ ستينات القرن الماضي، عمل على تغذيتها ذاك السعي إلى التفكيك الجمالي (التخلّي عن الجمال في سبيل الفكرة أو المفهوم)، إضافة إلى تأثير الماوية السياسية، انحسر تأثيره تدريجياً بسبب افتقاره إلى التطوّر. وفي هذه الأيام ليس في مقدور هذا النظام سوى إنتاج أعمال متقنة تقنيّاً، لكنها تتجه أكثر فأكثر صوب الزخرفة، بدلاً من السعي إلى إيجاد معاني أخرى جديدة للعمل التشكيلي، إذ سقط العمل في هوة الإنتاج الكمّي لا النوعي. هذا الأمر يمكن رؤيته بوضوح لدى بن Ben، (وهذا اسمه الفنّي، أمّا إسمه الأساسي فهو Benjamin Vautier)، الذي انتمى، أو كان على علاقة بمجموعة Fluxus (حركة فنيّة ظهرت في ستينات القرن المنصرم، وتنوّعت إهتماماتها بين الفنون البصرية والموسيقى والأدب) إذ حين إنحرفت أعماله في إتجاه منتجات عادية كالروزنامات وقوارير الخمر واللوازم المدرسيّة وسواها، لم تعد أفكاره ذات معنى. أمّا كل ما تبقّى فهي تواقيع وكتابات غرافيكية بأحرف بيضاء على خلفية سوداء، تتمتع باعتراف محيطه بحيث تحوّلت إلى شعارات (Logos)حقيقية، فانتقلت من العالم الفني إلى عالم الشركات والعلامات التجارية.

السوق
ولسنا نجافي الحقيقة إن قلنا إن السوق يفضّل، من الناحية الهيكلية، هذا النوع من التكرار، إذ هو في حاجة إلى أعمال فريدة بما يكفي، كي تقترن بهذه الماركة أو تلك لتمييز نفسها عن المنتجات الصناعية الأخرى، كما من الضروري أن تكون متكررة من أجل نسبها أوتوماتيكياً إلى الفنان، الذي من شأنه أن يكون معروفاً، للإستفادة من شهرته وتصنيفه. (شاهدنا في قنوات التلفزة اللبنانية في الماضي القريب دعاية لأحد أصناف القهوة، وكان تم الجمع بين المنتج وأعمال فنانين لبنانيين، واختيرت لهذا الهدف أعمال ذات منحى بصري، يغلب عليها الطابع اللوني، لما يمكن أن يكون للون من تأثير على الجمهور).

إن إحدى إشكاليات الفن المعاصر تتمحور حول الإختلاف. هذا، مع العلم أن تنافر الإختلافات بين أعمال غير متجانسة هو هيكلي، أكثر من كونه فردياً، وهو ملتصق بالضرورة بعملية التسويق المتزايدة للفن، مما يدفع الفنانين إلى الإبتكار من أجل تمييز أنفسهم في عالم فنّي معقّد وتنافسي. إلى ذلك، يمكننا القول إن أي ابتكار فنّي لا بدّ من أن يُخترق بالحاجة إلى تكرار نفسه، كما يؤكّد مؤرخ الفن رينيه باسيرون. لا بدّ أن هناك شاعرية للتكرار، وثمة علاقة أنثروبولوجية بين المؤلّف وعمله. يمكننا أن نفكر بداية في طقوس الفنان، كما يمكننا أن نتفهم التكرار كحاجة إلى تأكيد النفس، وهو ما يسميه باسيرون "التكرار المتكامل": تكامل التقنيات، واللغة الفنية والعادات الأسلوبية أيضاً. إن هذا كلّه قد يؤدي إلى نوع من "البراعة"، وهي تلك التي بدأت مع روبنس Rubens في القرن السابع عشر، ولم تنتهِ مع بيتر دويغ Peter Doig في أيامنا هذه.