"دراسات السحب" والعمارة الجنائية: هواء فلسطين في مانشستر

شادي لويس
السبت   2021/08/21
كيف يمكن للفن أن يتفادى السياسي إن كان الهواء الذي نتنفسه موضوعاً لهيمنة السلطة بأشكالها!
كفت الفنون منذ وقت طويل عن الانشغال بالجمال، أو في افضل الأحوال صارت وعداً به لا يتحقق أبداً. في عصر السلعة، اتخذ التجميل المعمم لسطوح الأشياء المصنعة، شكل نزعة عدمية، تبخس الجميل وهي تحوله إلى عملة مبتذلة. وخوفاً من إن يصير كل تقييم جمالي ذريعة لعملية تجارية، رسمت الفنون ذات الميل اليساري، دائرة تفسيرية مغلقة لإدانة الحداثة والسوق والاعتذار عنهما، واختزلت الأعمال الطليعية نفسها في نقد ذاتي للفن البرجوازي، نقد مهتم بالتدمير كغاية وحيدة.


يطلق المؤرخ البريطاني، إيريك هوبزباوم حكمه الشامل: "لقد محا الفن المفاهيمي الفن نفسه"، قبل أن يراجع نفسه، قائلاً إن العمارة هي الفن الوحيد الباقي. فبعد الحرب الثانية، لم يعد هناك سوق لصروح عامة، وحل المعماري مكان النحات، ليصير "حاكماً للفنون الجميلة"، فالكبير والضخم هو ما يترك أثراً، واليومي والمكاني المتمثل في البنايات والتخطيط والحضري هو الساحة الأوسع لفن جماهيري للجميع.

مطلع الشهر الماضي، افتتح غاليري "ويتوورث" التابع لجامعة مانشستر، معرضاً فنياً بعنوان "دراسات السحب". وكما يوحي العنوان فإن المعرض يتبنى مفهوماً موسعاً لما يعنيه الفني، يتخطى حدود الإبداع، إلى البحث والتوثيق والفحص المنهجي. تدرس الأعمال المعروضة استخدام التلوث الجوي كسلاح ضد الجماعات المهمشة في عدد من البلاد من بينها فلسطين ولبنان واندونيسيا والمملكة المتحدة. ويقدم أيضاً معالجة بصرية للعنصرية البيئية التي يتعرض لها الأميركيون السود في حوض المسيسبي.

تقف وراء المعرض الوكالة البحثية، المعروفة باسم "العمارة الجنائية"، والتي تتخذ من قسم الهندسة المعمارية في جامعة غولد سميث اللندنية مقراً لها. وفيما تبدو العلاقة بين المعماري والفني مفهومة، فإن الإشارة إلى الاستقصاء الجنائي هنا ليس بلاغياً. فالوكالة تقوم برصد وفحص وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان ومن بينها العنف الحكومي وجرائم الحرب، عبر تقنيات التحليل المكاني والمعماري والنمذجة الرقمية. هكذا يتم فهم العمارة كوسيلة حرب وساحة لها، وكذا دليل إدانة لتحقيق العدالة. وفي الواقع قبلت المحاكم الدولية والمحلية بالأدلة التي قدمتها الوكالة في العدد من القضايا. وبالعودة إلى الجانب الفني للعمارة، فإن الوكالة لا تكتفي بعملها البحثي والقانوني بل تساهم بشكل دوري في معارض فنية وعروض عامة، تدمج الفني مع الهندسي والإبداعي مع الأكاديمي والقانوني.


بعد افتتاح "دراسات السحب"، تسبب بيان معلق في مدخل المعرض باعتراض عدد من المنظمات اليهودية في بريطانيا، وذلك بسبب نصه الداعم للفلسطينيين في مواجهة "العنف والابارتهيد والاستعمار" بعد الحرب الأخيرة على غزة. وقادت منظمة "محامون من أجل إسرائيل" الحملة ضد البيان، متذرعة بافتقاده للحياد المفترض في العمل الفني. وكان من الصعب اتهام "العمارة الجنائية" بمعاداة السامية، فمؤسس الوكالة ومديرها الحالي، هو أيال ويزمان، المعماري والأكاديمي الإسرائيلي. والجدير بالذكر أن ويزمان كان قد طور مشروعه البحثي وربطه بالعمل السياسي، أثناء نشاطه لصالح الحقوق الفلسطينية ضد مؤسسات الدولة الإسرائيلية، بالتوازي مع دراسته لطرق عمل الاحتلال عبر التخطيط المديني والهندسة المكانية. (كتابه الذي يعرض خلاصة تلك الأبحاث والمعنون: "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال"، نشرته "الشبكة العربية" في عام 2017 من ترجمة باسل وطفة).

شهد الأسبوع الماضي تسارعاً للأحداث. فجامعة مانشستر، استجابة للضغوط التي تعرضت لها، قامت بإزالة البيان محل الخلاف. وكرد فعل، انسحبت "العمارة الجنائية" من المعرض في اليوم التالي، مما أدى إلى تعليقه مؤقتاً. وبعدها، وبسبب ما اعتُبر رقابة على الفن وقيودا على الحرية الإبداعية، غدت الجامعة هدفاً للانتقاد. وفي المقابل، فإن "محامون من أجل إسرائيل" وصفت انسحاب المشاركين بأنه دليل على أنهم "معنيون بالبروباغندا أكثر من الفن".

انتهت الأزمة قبل يومين، حين أعادت الجامعة تعليق البيان في موضعه، ووافقت "العمارة الجنائية" على افتتاح المعرض مرة أخرى. بالطبع يمكن الاحتفاء بالواقعة على أنها انتصار للحقوق الفلسطينية، ودلالة أخرى على تراجع متواصل ومضطرد للنفوذ الإسرائيلي في المؤسسات الأكاديمية والفنية البريطانية والغربية عموماً. لكن هذا ليس كل شيء، فأزمة "دراسات السحب"، تشي بالتحولات الجذرية في فهمنا للفني، وإن كان يتعلق بالإبداع أم بالبحث والتوثيق، بالجمال أم بالحقيقة. وكذلك تثير أسئلة قديمة لم تجد إجابة حاسمة بعد، فهل حقاً محا الفن نفسه لصالح السياسي والمفاهيمي؟ وهل العمارة التي نصبت وريثاً وحيداً للفنون الجميلة، قد لحقت بسابقيها؟ وكيف تؤثر الممارسات متعددة الحقول على الفن، هل وسعت من أفقه أما إنها قادت إلى تهريب السياسي داخل قشرة من ادعاءات جمالية؟ يقدم المعرض إجابة ضمنية لبعض من تلك الأسئلة، فكيف يمكن للفن أن يتفادى السياسي إن كان الهواء الذي نتنفسه موضوعاً لهيمنة السلطة بأشكالها!