بول أوستر: بين زوجتين

نزار آغري
الجمعة   2021/08/20
في إحدى الأمسيات الشعرية وقع نظره على امرأة شقراء طويلة

الحادثة التي لا يكف الروائي بول أوستر عن ذكرها في أحاديثه ومقابلاته: موت تلميذ بصاعقة رعدية أمام عينيه حين كان في المدرسة الإبتدائية.

كانت صدمة هائلة وضعت حجر الأساس لحياته اللاحقة وصاغت فلسفته في الوجود. فلسفة شك وعدم يقين وعبث. هذه الفلسفة تلخص بكلمتين:

ماذا لو؟

ماذا لو أن التلميذ الذي أمامه عبر السياج المدني بدقيقة أو نصف دقيقة قبله؟ كانت الصاعقة ستضربه هو، إذ يكون هو تحت السياج، وسيلقى حتفه ويموت ويموت معه كل شيء. موهبته ورواياته، التي ظهرت لاحقاً.

كل النصوص التي كتبها، كلها، تنهض على هذه القراءة. صدف وعبثيات وأقدار لا ناظم لها وخالية من المنطق والمعنى.

الصدفة فقط هي التي جعلت منه روائياً. الصدفة هي التي رسمت معالم طريقه في هذه الحياة التي، كما يقول، بلغت مرحلتها الأخيرة.

ماذا لو، هي الفكرة التي دفعته إلى كتابة الروايات التي بزغت من مجموعة هائلة من الـ"ماذا لو": "ماذا لو، تطاردنا، سواء في الحياة الخيالية التي نحتفظ بها في أذهاننا أو تلك التي تسير بالتوازي مع وجودنا الفعلي. كيف يمكن أن تسير الأمور لو أنني ذهبت إلى مدرسة مختلفة، أو لو لم ألتق المرأة التي تزوجتها؟". ما كانت ستصبح حياتنا لو سلكنا هذه الطريق بدلاً من تلك، لو تزوّجنا من هذه المرأة وليس من تلك، لو توفّي والدنا ونحن في سنّ السادسة…الخ؟

روايته الأخيرة تنسج على منوال هذه الأسئلة من خلال أربع حيوات مختلفة لشخص واحد.

ولكن ماذا عن حياة بول أوستر نفسه؟ ماذا لو أنه لم يكن ابن ثري يهودي ترك الجامعة كي يعمل في مهن عجيبة وغريبة، طباخاً على ظهر سفينة مثلاً، ويصل إلى باريس برفقة فتاة من عائلة ارستقراطية ويعيش معها حياة فوضوية، شبه هيبية، ثم يتزوج منها؟

الحديث هنا عن زوجته الأولى ليديا ديفيس، التي التقى بها في الجامعة وقررا معاً السفر إلى باريس ثم استقرا في جنوب فرنسا فترة من الوقت. هناك عملا في الترجمة، فكلاهما يتقن اللغة الفرنسية، والكثير من المهن الصغيرة الأخرى. ليديا كانت بارعة في اللغة ونالت شهرة كبيرة بترجمتها رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست ونشرتها دار بنغوين.

عاد الإثنان إلى نيويورك ولم يمض وقت طويل قبل أن ينفصلا بعد أن أنجبا ولدهما دانيال، الذي يعمل مخرجاً وممثلاً.

كتب بول أوستر نصوصاً عديدة يروي فيها سيرته، طفولته، صباه، رحلاته، أسفاره، أوضاعه المالية، ويتحدث عن المحيطين به، والده ووالدته وأقاربه ورفاقه. ومع هذا فإنه لا يذكر، إلا بكلمة أو اثنتين، زوجته ليديا ديفيس.

لا توجد صورة تجمعه إلى ليديا، على الأقل لا يتوفر هذا الشيء في الشبكة العنكبوتية. لا بد أن تكون هناك صور لهما معاً ولكن يبدو أنهما لم يردا ولا يريدان إظهارها للعلن أو ربما تخلصا منها بطريقة ما (أحرقاها، مثلاً؟).

هناك فجوة هائلة، ثقب أسود كبير، في ما يتعلق بالعلاقة الزوجية بين الإثنين. لماذا لم يستمر الزواج وكيف كانت حياتهما معاً والسبب الذي دعا إلى انفصالهما.

ليديا ديفيس ليست امرأة عادية. هي شاعرة وروائية وكاتبة قصة قصيرة ومترجمة بارعة.

الأرجح أنها تركت أثراً كبيراً على بول أوستر، من ناحية السلوك المعيشي والنوازع اليومية ولكن أيضاً من جهة الأدب والفلسفة والفن. ويبدو أنها هي التي قادته إلى العبث، كفكرة وجودية، وعرفته إلى صموئيل بيكيت.

السنوات التي تلت انفصال بول أوستر عن ليديا ديفيس كانت الأكثر كآبة في حياته. غرق في أزمات نفسية ومادية لدرجة أنه ابتكر لعبة البيسبول باستخدام أوراق اللعب وباعها في الأسواق، وفكر في كتابة إعلان حول "كسب المال من الديدان في الطابق السفلي الخاص بك".


كتب: "لقد أمضيت حياتي كلها أتجنب موضوع المال، والآن، فجأة، لا أستطع التفكير في أي شيء آخر غيره".

ثم جاءت يد القدر لتنتشله. أطل ال "ماذا لو" من جديد.


في إحدى الأمسيات الشعرية وقع نظره على امرأة شقراء طويلة. لم يستغرق الأمر أكثر من بضع دقائق كي يقع في شباكها. وكي تقع هي أيضاً. سيري أوستفيدت، الروائية وعالمة النفس الشهيرة. ابنة مهاجر نرويجي. سبق لها أن نشرت قصيدة في مجلة رائدة وتخرجت من جامعة كولومبيا باطروحة عن تشارلز ديكينز. في جامعة كولومبيا. إذن: حب من النظرة الأولى. ثم: تزوجا واستأجرا شقة في بروكلين.

منذ ذلك الحين يعيش الإثنان معاً. في بيت واحد، تحت سقف واحد. يكتبان معاً، هي في الطابق الأرضي وهو في القبو.

يتبادلان مسودات ما يكتبان في المساء، لا يبخلان بالملاحظات والإنتقادات. "سيري قارئة ذكية. نادراً ما أستطيع مقاومة اقتراحاتها. إذا خرجت عن المسار، فإنها تسحبني للخلف".

 
نجل أوستر، دانيال، من زواجه الأول من الشاعرة ليديا ديفيس،  يتردد على البيت، يجلس إلى الإثنين، يصغي لأفكارهما واقتراحاتهما. يطرح عليهما مشاريع أفلام. أما صوفي، ابنتهما، أي ابنة بول وسيري، فإنها مشغولة بالإعداد لألبوماتها الغنائية.

أصدقاء بول أوستر من النخبة الأدبية حول العالم. دون ديليلو وسلمان رشدي وبيتر كاري وجي إم كويتزي، الذي تبادل معه الرسائل المطولة في كل مناحي الحياة والكتابة ونشرت في كتاب. لا يخفي بول ميوله اليسارية هو الذي وقف ضد حرب العراق وانتقد جورج دبليو بوش، ودخل في خلاف عام مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان حول الكتاب المسجونين.


"لقد بلغت السبعين والجزء الأكبر من حياتي صار خلفي. تغيرت مقاربتي لحياتي اليومية منذ أن أدركت أن الكثير من الأشخاص الذين كنتُ أحبهم ماتوا. كل شيء صار أكثر قيمة. كل تجربة، كل قبلة، كل سهرة، كل كتاب، كل فيلم. أعرف أن النهاية قريبة، ولذلك أتذوّق هذه الاشياء بحدّة أكبر ومتعةٍ أكبر وألم أكبر. أنا مقتنع بأن لا حياة بعد الموت لذلك أحاول ألا أفكّر كثيراً في الأمر، بل في الحاضر. أتذوّق متعة بقائي على قيد الحياة وأعتبر ذلك هدية ونعمة لأنني أعرف أن كل شيء سينتهي قريباً".


هي الدائرة الأبدية. الدائرة التي لا يغلقها سوى الموت. لو أن التلميذ الذي كان أمامه في رحلة المدرسة، سبقه بنصف دقيقة لكانت الدائرة أطبقت عليه أنذاك ولكان العالم خسر واحداً من أبرع الروائيين.

لو أنه لم يلتق بليديا دافيس ولو أنه، ولو أنه، الخ.

ليس هناك نهاية للسؤال: ماذا لو.