"باحتنا الخلفية".. فنانو مصر ينشدون الوطن الغائب

شريف الشافعي
الخميس   2021/07/08
محمود سامي قابيل
لم يجد التشكيليون المصريون الشباب؛ سارة أيمن رجب، وأحمد ياسر، وروان عباس، ومحمود سامي قابيل، ومروة عطوة، عنوانًا لمعرضهم الجماعي في قاعة المشربية للفن المعاصر في القاهرة (يوليو/تموز 2021) أنْسَبَ من "باحتنا الخلفية"، فالمشهد الأمامي للوطن وللواقع وللحياة عمومًا: غائم غائب في خضمّ الخيبات والانكسارات والواجهات الضبابية. وما من وجود لأحد في الحاضر الممسوخ سوى في تلك الجيوب السرية القابعة في الوراء.

بأصابع مرتعشة، يترحّم الفنانون في أعمالهم الصارخة على أرضهم وسمائهم، ويفتشون عن يومهم الهارب، ويطاردون مستقبلهم المشكوك فيه. يتأملون ما يحيط بهم في روتين قاسٍ، يراقبون الأراجيح الدائرة من حولهم في حيرة. الأشياء البسيطة في حديقتهم معقدة جدًّا، كما هو الحال في داخل أنفسهم المتوترة، المتسائلة عن ميكانيزم هذا التمايل الدائم والترنّح اللانهائي في الهواء،  ومصير الليمون المتساقط من أشجاره الحزينة، ولماذا جرت العادة على نسيان القهوة في الفناجين، فيصير الاستمتاع المتاح بها؛ فقط وهي باردة؟!

وعلى الرغم من أنهم قادمون من خلفيات متباينة، فقد أجبرت الظروف المحيطة الفنانين جميعًا على الالتقاء بشكل عفوي، فقادتهم المحادثات والأفكار المتبادلة إلى أن يعرضوا معًا أعمالهم المتنوّعة بين اللوحات والرسوم والتطريز. هي مختلفة في النهج والأسلوب، لكنها كلها تعبّر عن التناقضات والمشاعر المزدوجة، وتتحسس الحرية المفقودة، وتعكس الإحساس بالضعف والشعور بالوحدة، وتعالج قضايا الجسم والهوية. هي لوحات الفناء الخلفي من دون مواربة، حيث الاشتباك الصادم مع الذات، وفضح الهموم المجتمعية الكارثية، وتعرية الأوجاع الإنسانية.

في رسومها وتركيباتها، تتعاطى سارة أيمن رجب مع وسائط متعددة، مصوّرة غدًا منزوع البهجة، يتوق إلى الابتسامة الاصطناعية في لوحتها "بُكرة"، ومتندرة على إمكانية إصلاح ما فسد في عمل آخر "كل حاجة هتتصلح تاني"، وقائلة للفراشة الحبيسة "سلامًا" في عمل ثالث، ومستسلمة لليأس في عمل رابع "يئست من المحاولات بتاعتي".

وفي بقية خربشاتها اللونية، تطلق سارة أيمن صيحاتها العالية تارة، وأنّاتها المكتومة تارة، فكل ما بداخلها وحولها يؤكد أن كل شيء ينتهي سريعًا بضغطة واحدة، وأن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فلتفعل الأيام ما تشاء، وليبق الحبّ من مسافات بعيدة جدًّا. هي تثق من البداية بأن الحكاية لن تكتمل في مستنقع الكذب الذي يغرق فيه البشر "أنتظر رسائلك كل يوم رغم يقيني أنها لن تأتي، أتسكع معك في طرقات مدينة رسمتُها في خيالي فأعود منها وحدي". ومع استحالة التحقق في الحاضر بالنسبة لفردٍ ناقصٍ مليء بالثقوب، تستحيل كذلك فكرة إلغاء الماضي "مش قادر تلغي الماضي كله.. معليش، معليش. والحاضر مش حاضر محلّه.. معليش، معليش". 

تغوص سارة أيمن خلف المشاعر الإنسانية المعقدة المختلطة، لتحمّلها بشحنات القضايا المجتمعية كعنصر أساسي في أعمالها، ساعية إلى ترك رسالة للمتلقي أو فتح باب للمناقشة معه، والتفكير في محتوى التساؤلات التي تطرحها، حول وضعية الإنسان في وطنه، وعلاقة البشر بعضهم بالبعض، وتأثر الجوهر الآدميّ بالعصر الحالي والأحداث المتشابكة. وهي تؤمن في فلسفتها بأن العواطف، في مرحلة ما، ستتلاشى من الوجود تمامًا، شأنها شأن أي شيء آخر يحزن الفرد على فقدانه، لكنه قادر على التخلي عنه. في لحظات محدودة يشعر الإنسان بالقلق، وفي اليوم التالي لا يتذكر ما فقده، وما كان قلقًا بشأنه. فهل هذا هو المصير الحتميّ، لكل ما على الأرض، باستثناء ما هو مستتر في "الباحة الخلفية"؟!

ويلجأ الفنان أحمد ياسر في أعماله إلى الميثولوجيا، حيث نشأة الأساطير وتطوراتها، وتفاصيل الموروث الشعبي والثقافة الفلكلورية، ليبحث في لوحاته عن ماهية المادة التي يشكّل بها الواقع البصري ويحدد سلوكه. هو يرسم الدوّامات المحيطة، ويُبرز العشوائيات والفوضى التي اعتاد أن يراها في الأمكنة ولدى البشر، مستنبطًا أن علاقة الفيزياء المنطقية بالواقع تتخلص في ذلك الصراع بين "الأنا" و"العالم".

ينطلق أحمد ياسر من رغبة قوية في التمرد على النظام المادي، وخلخلة اللحظة الكابوسية المرفوضة، بتجاوزها أو بالهروب منها أو بتجميلها. لكنه يصل في آخر المطاف إلى حقيقة مفجعة، هي أن الواقع لا يتغير، والنهاية إجبارية، والألوان والظلال ليس بمقدورها إخفاء ما هو كائن، إلا حين تسكنها الهلاوس.

ويتخذ محمود سامي قابيل من تسجيل مشاهد البورتريه مرتكزًا للتعبير عن المشاعر الإنسانية بكل تناقضاتها واشتعالاتها، كما يصل بهذه المشاهد إلى تفجير المواقف الحياتية التي يمر بها المواطن المصري في يومياته الاعتيادية، واستثمارها بصريًّا لإثارة قضايا عامة من خلال أزمات فردية، كما في لوحاته حول البدانة مثلًا، التي تحيل إلى الإحساس المجتمعي بالسكون والجمود والتكلس، وعدم القدرة على التحرك إلى الأمام، أو حتى استعادة ما كان من منجزات وذكريات وحياة طبيعية.

وتأتي رسوم البورتريه لدى محمود قابيل ذات طابع كاريكاتيري، فهي تحمل في طياتها جوانب التضخيم والمفارقة من أجل إبراز الأضداد وتكثيف الدهشة واصطياد المآخذ والسلبيات على نحو تهكمي ساخر، فالكثير من المشاهد والمواقف البائسة في تيّار المعايشات والمكابدات اللحظية هي من المُضحكات المُبكيات التي تدعو إلى التندر الحادّ إلى جانب الانتقاد الجارف.

وفي أعمالها، تعتمد مروة عطوة على تمثيل النزعات البشرية، للوصول إلى فرضية أن الكائنات جميعًا، وليس البشر فقط، قد لا تكون لديهم خيارات أو فرص للتغيير، وذلك في ظل الأوضاع المأساوية الحاكمة، وهو ما تصفه من خلال الأشكال الثابتة والرموز الدالة على الطيور والحيوانات والحشرات وغيرها. وتسم الفنانة لوحاتها بمسحة أنثوية، لا تسعى فيها إلى تحديد أو تفصيل، وإنما تهدف إلى خلق طقوس عاطفية وإيماءات للتعبير عن روح الأنوثة وخصائصها وتجلياتها وانتفاضاتها ضد الذكورية، وذلك خارج مفهوم التجسيد المألوف.

بدورها، فإن الفنانة روان عباس تسعى من خلال وسائطها المختلطة إلى إيجاد مخرج شكلاني للإنسان، لعله ينقذه من ورطاته المتتالية، بدءًا من كونه جنينًا مقيّدًا في بطن أمه، حتى آخر لحظات رحلته الحياتية. وتستلهم الفنانة عناصر التراث المصري القديم، والمفردات والأيقونات الفرعونية والإسلامية. ويقودها تشريح البشر، والحالة العامة المحيطة بهم، في الوقت نفسه، إلى نتيجة تقول إنه لا منفذ ولا خلاص بغير تجربة احتمالات "الباحة الخلفية".