جبّور الدويهيّ: حين تتحوّل المجزرة إلى حكاية

أسعد قطّان
الأحد   2021/07/25
لقد رحل جبّور الدويهيّ من دون أن يزوّدنا بجواب تفصيليّ عن كيفيّة تحويله المجزرة إلى حكاية
يدخلنا الأدب في لعبة الخيال وكأنّه الحقيقة، وفي لعبة اللا-واقع كأنّه الواقع. وربّما يكون الأصحّ أنّه يضفي على ما لم يحدث في الواقع قوّة الواقع، بحيث نصبح مستعدّين لتصديق الأدب أكثر ممّا نصدّق الحقيقة ذاتها. اللا-واقع كأنّه الواقع؟ هذه الكأنّ هي بيت القصيد، لا لأنّها تحيلنا إلى مجرّد تشبيه، أو استعارة، بل لأنّ ما بعدها في العمليّة التشبيهيّة، أي ما دعاه البلاغيّون العرب المشبّه به، يصبح أقوى ممّا قبلها، أي المشبّه. هكذا يضحي التخييل أقوى من الحقيقة ويجترح لذاته حقيقةً من نوع آخر نلج عوالمها ونصدّقها، حتّى إنّنا نسائل ذواتنا أحياناً عن هويّة الحقيقة الأكثر حقيقيّة: هل هي حقيقة الواقع أم هي حقيقة الأدب؟
هذا الكلام ليس تمريناً أدبيّاً، ولا هو تلاعب على احتمالات اللغة. ولعلّ أبرز ما يبيّن أنّه يحيل إلى خبرة حقيقيّة هو أنّنا كلّما انتهينا من قراءة حكاية ما أصبنا بالحزن، ودخلنا في لعبة السؤال الأبديّ الذي يلتصق بالأدب: هل هذه الحكاية «حقيقيًة»؟ هل تستند إلى شخصيّات واقعيّة وأحداث واقعيّة؟ وإلى أيّ مدًى استلهم مؤلّفها حكايات سردها على مسامعه بشر مثلنا من لحم ودم قبل أن يحوّلهم إلى «ناس من ورق»؟ نطرح على ذواتنا هذه الأسئلة، ونحاول في كلّ مرّة أن نمدّ جسراً بين الخيال والواقع، أيّاً تكن هشاشته، لأنّنا نأبى أن تكون الحقيقة الأدبيّة التي تشبه الحبّ، لكونها تعذّبنا وتغرّبنا وتنهب «شجيرة الدرّاق من أيّامنا»، كما كتب الشاعر ذات يوم، مجرّد خيال أدبيّ صرف.
ولكن ماذا يبقى من هذا الكلام حيال رواية الراحل قبل يومين جبّور الدويهيّ «مطر حزيران»، التي يعرف كلّ قارئ، قبل قراءتها، أنّها معالجة أدبيّة للمجزرة التي حدثت في كنيسة السيّدة في مزيارة يوم16 حزيران 1957؟ لقد حفرت هذه الرواية عميقاً الذاكرة الأدبيّة الجماعيّة في لبنان بوصفها رواية «المجزرة»، وبوصفها التعبير الأدبيّ عن جمهرة من الأشياء التي ظلّت حبيسة الصمت وطيّ الكتمان في نفوس أصحابها، فلم تسجَّل في تقرير قضائيّ ظنّيّ ولا في تحقيقات صحافيّة. إذا كان السؤال عن «الحقيقيّ» والواقعيّ والتاريخيّ في الحكايات «الخياليّة» سؤالاُ لا مفرّ منه، على الرغم من أنّه في غالبيّة الأحيان لا يحظى بجواب، فإنّ السؤال عن الخياليّ وعلاقته بالتاريخيّ في «مطر حزيران»، التي توثّق، بمعنًى ما، مجزرة مزيارة، سؤال مشروع أيضاً. وهذه المشروعيّة لا تتّصل بحشريّة القرّاء ورغبتهم في اكتناه أسرار العمليّة الإبداعيّة فحسب، بل لكون الأدب يتقن أيضاً لعبةً من نوع آخر، هي لعبة البناء التفصيليّ للشخصيّات. إنّ «مطر حزيران» تغادر منطق التقارير الظنيّة والتحقيقات الصحافيّة كي تلج عالم الأفراد المعنيّين بالمجزرة، فتحوّلهم إلى بشر «حقيقيّين»، لأنّ لكلّ واحد منهم حكايته الخاصّة به، ولكلّ واحد منهم قدره الفريد الذي لا يشترك فيه مع أيّ شخصيّة أخرى من شخصيّات الرواية.

 
لقد رحل جبّور الدويهيّ من دون أن يزوّدنا بجواب تفصيليّ عن كيفيّة تحويله المجزرة إلى حكاية أدبيّة تستدعي الدهشة والإمتاع والمؤانسة. ورحل من دون أن يجيب عن السؤال عن موقع الخيال في رواية أرادها استعادةً أدبيّةً لامعةً لحكاية مظلمة من حكايات تاريخ لبنان الحديث. لعلّه لو بقي بيننا، لأبقى السرّ سرّاً، ولما قال أكثر ممّا يقال في العادة عن امّحاء الحدود بين الخيال والحقيقة في الأدب. أمّا وقد رحل وبقيت رواياته بيننا، فلم يبقَ لنا سوى أن نحجّ مرّة تلو مرّة إلى «مطر حزيران» كي نقرأ عن إيليّا ابن يوسف الكفوريّ، عازف الأكورديون ومخترع الحكايات، الذي عاد إلى قريته في آذار بحثاً عن حكاية أبيه المقتول في المجزرة. فوجد أنّ شجيرات اللوز أزهرت قبل وصوله بقليل، وفاته لونها الأبيض. لعلّ جبّور الدويهيّ، بمعنًى ما، مثل إيليّا، الذي كتب قصّته، يخترع الحكايات وينتظر اليوم بياض زهر اللوز في مجرّة أخرى…