الـ"المولان رووج"... طواحين وتحرر نساء وقبلات

روجيه عوطة
الأحد   2021/07/25
طواحين ونساء
ليس الـ"مولان رووج" بمكان باريسي تاريخي فحسب، بمعنى أنه ليس قلعة ثابتة من قلاع العاصمة الفرنسية، التي لا تزال على حالها منذ تأسيسه العام 1889 حتى اليوم. الـ"مولان رووج" اكثر من ذلك، هو، على الأغلب، باريس بحد ذاتها، اي انها، ومن دونه، تبدو فارغة، أو اقل من نفسها اذا صح التعبير. هذا اول ما يستنتجه زائر معرض الهواء الطلق عن ذلك الكباريه الأحمر*، أما، ومن بعده، فيتنبه إلى جو معين يضيفه الـ"مولان رووج" على محيطه المديني، وهو خليط من المرح والتبدل، وبينهما انفتاح على العالم. فقد استطاع هذا المكان ان يشكل معلم الخفة، التي تنتجها مدينته، ومعلم التبدل الذي ينتقل بأثره منها إليه، والعكس، والانفتاح، بمعنى أنه شرع أبوابه لكثير من الغرباء الذين اتوا اليه، أو مكثوا في جواره.


فحكاية الـ"مولان رووج" ليست حكاية عن هذا المكان فحسب، بل هي أساساً حكاية حي مونمارتر، الذي كان ترتفع فيه عدد من الطواحين، فيبرز كأنه فسحة قروية في قلب باريس. هذه الفسحة، سرعان ما ستصير مثلما هو معروف قبلة الأدب والفن، بحيث سيصل إليها براك، وبروست، وغريه، وجاكوب... إذ كانت تسحر كل هؤلاء باطلالتها على المدينة، بالإضافة إلى هندستها، وطبعا، النور الذي ينزل عليها، بالتوازي مع ايجاراتها الرخيصة أيضاً. من بين مرتاديها، كان ثمة رسام اسمه أدولف ويليت، وهو كان قد التقى بوكيل مراهنة يدعى جوزف اودلر وبلحام وصاحب محل أحذية سابق يدعى شارل زدلر. أخبراه عن مشروعهما، وطلبا منه رسم الطاحونة الحمراء، التي يجب أن تكون على مرأى كل العالم. حقق ويليت طلبهما، لتصير تلك الطاحونة بمثابة عنوان للتسلية والاستعراض والغناء، وطوال هذا، تحدياً للآداب المجتمعية، ووضع حد لوقعها. ففي العام 1907، كانت المرة الأولى التي تقبل فيها فتاة حبيبتها على الخشبة، بحيث طبعت سيدوني-غابرييل كوليت قبلة على فم ماتيلد جو مورني، وهذا، في أثناء عرض اسمه "حلم مصر". فعلياً، لم يمتهن الـ"مولان رووج" تحدي تلك الآداب فحسب، بل انه، وخلال ذلك، جعل من الكوميديا والضحك نوعاً من الفن العام، الذي للجميع الحق فيه. فقد أخذ  الـ"مولان رووج" على عاتقه مهمة اضحاك الناس، الذين كان يرتادونه لكي يجدوا فيه نوعاً من التسلية، لا سيما عند الجلوس في قاعاته الكبيرة، وأمام مسارحه التي كانت، ومن بدايتها، على ديكورات والوان كثيرة.


بهذا، كان الـ"مولان رووج" كناية عن معمل للهمرجة، بالتوازي إلى كونه، وفي مطلع افتتاحه، قد اقترن بخطبة تحررية عن النساء، تجد في ظهورهن على المسرح سبيلهن لكسر القيود التي تعتقلهن. فعلى ملصقات الـ"مولان رووج"، يمكن ملاحظة بروز النساء على حركة جسدية، لا تتحملها السلطة المجتمعية آنذاك. فحكاية الـ"مولان رووج"، وبالجزء المحوري منها، هي حكاية هذه الحركة، بما هي رقص وقفز. من شخصيات هذه الحكاية، يمكن تذكر لويز فيبر، التي كانت تُعرف بالـla Goulue. ولدت في عائلة كادحة، عاشت في الدائرة العاشرة، تعلمت الرقص متأثرة بأمها. تعرفتْ على رنوار، الذي رسمها قبل أن تشتغل موديلا لعدد من زملائه. لاحقاً، التقت بمؤسسي الطاحونة الحمراء، داعين اياها لتقديم عرضها الاول، الذي جعل منها افضل راقصة. وقد أرخ لعرض من عروضها هنري دو تولوز-لتوريه بملصقه الشهير، الذي تظهر "لاغولو" فيه بفستانها الأحمر وشعرها الاصفر، وبحركة راقصة أمام ظل فالنتين دوزوسيه، الذي كان قد شكل معها ثنائياً راقصاً. على هذا النحو، ظلت الطاحونة الحمراء، ومن حقبة إلى أخرى، محلا لراقصات وراقصين صنعوا جواً باريسياً، لا يمكن وصفه سوى بجو براق، قبل أن يصير، ومع الوقت، معتماً وديماسياً اكتر.

*9 bis rue Norvins