من قندهار إلى كابول..."كانت فيما سلف مدينة عظيمة"

محمود الزيباوي
الخميس   2021/07/15
غزنة، رسم طباعي بريطاني، 1839.
على خلفية مواصلة تقدمها في أنحاء متفرقة من أفغانستان، أعلنت حركة "طالبان" تحقيقها مكاسب ميدانية جديدة في قندهار. في المقابل، أرسلت السلطة في كابول المئات من عناصر قواتها إلى مدينة قلعة نو حيث تحتد المعارك بين قواتها ومقاتلي "طالبان". لم تعرف أفغانستان في العقود الأخيرة سوى الحروب، وهي اليوم واحدة من أفقر دول العالم، وصورتها في المخيلة الجماعية هي صورة البلاد الغارقة في الظلامية والانغلاق، غير أن تاريخها المنسي يكسر هذه الصورة، ويشهد لانفتاحها على مدى العصور.

في العام 1333، وصل ابن بطوطة إلى مدينة غزنة، وكتب في حديثه عنها: "هي بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين الشهير الاسم، وكان من كبار السلاطين يلقّب بيمين الدولة، وكان كثير الغزو إلى بلاد الهند وفتح بها المدائن والحصون، وقبره بهذه المدينة عليه زاوية، وقد خرب معظم هذه البلدة ولم يبق منها إلا يسير، وكانت كبيرة وهي شديدة البرد، والساكنون بها يخرجون عنها أيام البرد إلى مدينة القندهار، وهي كبيرة مخصبة ولم أدخلها، وبينهما مسيرة ثلاث".

واصل امير الرحالة المسلمين تجواله، وبلغ كابول التي "كانت فيما سلف مدينة عظيمة" بحسب تعبيره، "وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان، ولهم جبال وشعاب وشوكة قوية، وأكثرهم قطّاع الطريق، وجبلهم الكبير يسمّى كوه سليمان، وهو الجبل الذي صعد إليه ابن داوود كما يذكر الرواة، "فنظر إلى أرض الهند وهي مظلمة فرجع ولم يدخلها، فسُمّي الجبل به، وفيه يسكن ملك الأفغان". توقف ابن بطوطة عند زاوية شيخ يُدعى إسماعيل الأفغاني، "تلميذ الشيخ عبّاس من كبار الأولياء"، ومنها توجه إلى كرماش، "وهي حصين بين جبلين تقطع به الأفغان"، ودخل مع رجال قافلته في صراع مع هؤلاء، فرموهم بالنّشّاب، وتركوا أحمال جمالهم، ثم عادوا في اليوم التالي مع خيلهم وحملوها.

تقع غزنة اليوم جنوب غرب العاصمة الأفغانية كابول، وهي مدينة صغيرة يناهز عدد سكانها الخمسين ألف نسمة، غير أنها كانت في الماضي عاصمة لدولة الغزنويين الذين سمّوها باسمهم. أسس هذه الدولة ألب تكين، وهو مملوك تركي كان عبدا لأحد قادة السامانيين الإيرانيين. إثر وفاة أمير السامانيين عبد المليك الأول في سنة 961، بدأت النزاعات بين أخوته على تولي العرش، وناصر ألب تكين أحد أطراف هذا النزاع، وأدى ذلك إلى عزله من الولاية، فاستولى على المدينة التي عُرفت باسم غزنة، وأنشأ فيها دولة شبه مستقلة، وعند وفاته خلفه ابنه أبو إسحاق إبراهيم، ثم حفيده بيلجا تكين، ومن بعده سبكتكين الذي وضع الحجر الأساس لدولة الغزنويين المستقلة وقام بتوسعة رقعتها. 

يذكر ابن بطوطة "السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين الشهير الاسم"، وهو الحاكم الذي لُقّب بیمین‌ الدولة، وأمین‌ الملة، والغازي، وفاتح الهند، ومحطّم الأصنام، وفي عهده ارتفعت الدولة الغزنوية إلى الأوج. أمضى حياته في الحروب المتواصلة، وأشتهر بغزواته إلى الهند التي أنهكته، وكانت سببًا في مرضه، فعاد إلى غزنة أملا في أن يسعفه مناخها، غير أنه لم يسترد عافيته، وقضى في 1030 قبل ان يبلغ الستين، ودُفن في ضريح شُيّد في هذه المدينة، وهذا الضريح يُعتبر اليوم من أشهر معالم المدينة الأثرية.
 
من غزنة، توجه ابن بطوطة إلى قندهار، ووصفها بـالكبيرة المخصبة، غير أنه لم يدخلها. ذكر ياقوت الحموي هذه المدينة في معجمه، وهي بحسب تعريفه بها "من بلاد السند أو الهند مشهورة في الفتوح"، غزاها القائد الأموي عبّاد بن زياد بن أبيه، "فقاتل أهلها فهزمهم وقتلهم، وفتحها بعد أن أصيب رجال من المسلمين". وقال الشاعر يزيد بن المفرغ الحميري في وصف هذه المعركة: 
كم بالجروم وأرض الهند من قدم/ ومن سرابيل قتلى ليتهم قبروا
بقندهار ومن تكتب منيّته/ بقندهار يرجّم دونه الخبر

تقع قندهار اليوم في جنوب شرقي أفغانستان، وهي ثانية مدن هذه البلاد حجمًا بعد العاصمة كابول، تشكّل مركزاً تجاريًا مهمًا بين الهند وإيران وباكستان، وهي السوق الرئيسية لجنوبها، وفيها جالية كبيرة من الهنود تُمسك زمام التجارة. يضم الجزء القديم من المدينة العديد من المباني والأسواق العتيقة، ومن أشهر معالمها ضريح الشاه أحمد شاه دراني، مؤسس الأسرة الدورانية التي حكمت البلاد وصنعت استقلالها في القرن الثامن عشر، وهو من بنى قندهار الحديثة وجعل منها عاصمة لأمبراطوريته في 1761، وقد حلت كابول محلها عاصمة بعد خمسة عشر عاماً، ولم تزل.

وصل ابن بطوطة إلى كابول التي "كانت فيما سلف مدينة عظيمة". تقع هذه المدينة على ضفاف النهر الذي حملت اسمه، وسط جبال هندوكوش، وتتميّز منذ القدم بتعددية عرقية وثقافية جعلتها ملتقى للشعوب والحضارات، وهو ما يشير إليه النابغة بقوله: "قعودا له غسان يرجون أوبَهُ/ وتُركٌ وَرَهطُ الأعجمين وكابُل". دخل الإسلام هذه الأرض، إلا إنه لم يقض على تعدديتها، وهذا ما يشهد له القزويني في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد"، وفيه يذكر كابول، ويقول في تعريفها "مدينة مشهورة بأرض"، "أهلها مسلمون وكفار"، لا تتمّ الولاية لملوك الشاهية إلا فيها، "وإن كان بغيرها فلا يصير".

تتجلّى هذه الصورة في "الروض المعطار في خبر الأقطار"، وفيه يقول الحِميري في وصف كابول في القرن الخامس عشر: "من ثغور خراسان، وقيل في بلاد الترك، وقيل من مدن الهند المجاورة لبلاد طخارستان"، "وهي من غرّ البلاد وأحسنها هواء، وبها حصن موصوف لا يوجد الصعود إليه إلا من طريق واحد، وفيها مسلمون كثيرون، ولها ربض فيه اليهود"، "لها أسوار ومنعة، ولها ربض عامر خارج المدينة، والقصد إليها من الآفاق القريبة والبعيدة، ويزرع بسواد أرضها النيلج الذي لا يوجد نظيره في سائر البلاد كثرة وطيباً، ويحمل منها إلى كل الآفاق، ويتجهز أيضاً من كابل بثياب تصنع من القطن حسان تحمل إلى الصين وتخرج إلى بلاد خراسان، وقد يسافر بها إلى الهند وأعمالها ويتصرف بها كثيراً، وفي جبال كابل معادن حديد، ولها قلاع وقرى وعمارات متصلة". 

اشتهرت كابول بتماثيلها، وتناقل الرواة أخباراً عديدة تتعلّق بهذه التماثيل. في رواية نقلها الحميري، غزا الصحابي مجاشع بن مسعود كابول وعقد صلحا مع حاكمها الأصبهبذ، وأخذ من بيت الأصنام جوهرة كبيرة، وعند خروجه من المدينة مع رجاله، أدركهم الثلج، ولم يبق منهم حيا إلا اثنين، "فزعم الأصبهبذ أن الصنم فعل ذلك بهم". 

في الأمس القريب، شنّت حركة "طالبان" حربها على التماثيل في أفغانستان، ودمّرت مجموعة من التماثيل المحفوظة في متحف كابول، مصدرها منطقة تُعرف باسم كفرستان، أي "أرض الكفار"، وهي منطقة شبه أسطورية تشمل جبل كوش الهندوسي الذي يمتد على حدود شرقي أفغانستان وشمال غربي باكستان.

(*) تكتب كابول في النصوص التراثية كابل..