فاشية العقل الحسابي وفشله

روجيه عوطة
السبت   2021/07/10
إيف باجيس: العقل الحسابي يريد ابتلاع كل موضوع
اقتنى إيف باجيس ذات يوم دفتراً، راح يسجل عليه كل ما تقع عليه عيناه في الجرائد أو تسمعه أذناه في الأحاديث، من أخبار تتناول مواضيعها كمعلومات عامة بالاستناد إلى الإحصائيات، أي بقياسها، وككميات، بالأرقام. سجل باجيس الكثير من هذه الأخبار في دفتره، من دون أن يدرك لماذا يراكمها ويحتفظ بها. وهذا، إلى حين قرر أن ينشرها دفعةً واحدة في كتابٍ(*)، قد يكون غريباً بعض الشيء لمن لم يعتد طريقة تقديمه، بحيث أنه كناية عن تلك الاخبار مسرودة خبراً تلو الآخر، مع تعليق أو تعقيب مقتضب عليها. لكن، رغم الاقتضاب في شكلَي تعليلها هذين، فسردها سرعان ما يبيّن بغيتها، بحيث أن غالبيتها تبدي أمراً محدداً: طغيان الحساب على العالم، الذي يصير علمه الرئيس أو بالأحرى المتين هو علم المحاسبة.

الخبر الأول في الكتاب هو أن 37% من المراهقين يجدون أن أهلهم يضيعون وقتهم في مشاهدة التلفاز وان 37% من ممارسي ألعاب الفيديو، هم على استعداد لترك وظائفهم من أجل أن يخصصوا كل وقتهم للعب ويصيروا محترفين. بعد هذا الخبر، خبر متعلق بالطلاب في المدارس الباريسية الذين يتبادلون رسائل في الليل، بحيث أن 39% منهم يرسلون لبعضهم البعض عبارة "هل أنت هنا؟"، و28% منهم يردون عليها بعبارة "ماذا هناك؟". بعدهما، خبر عن موت ابن أو ابنة في حادث سير أو خطأ طبي أو في اعتداء يعود على الأهل بأربعين ألف يورو، ما يدفع إلى الاستفهام عن سبب تحديد المبلغ بهذا القدر فقط. بهذه الأخبار وغيرها بالطبع، يشير باجيس إلى ذيوع الإحصائيات والحسابات التي تحول ما تتناوله، أو كل ما يتعلق بالواقع إلى مجرد أرقام، بحيث تصير هي مرجعه، التي تفسره وتبرز ما فيه. وهذا ما يتعلق بوطأة الأرقام بما هي دليل يوصَف بالعلمي، بحيث أن اقتران اي معلومة بها قد تزيد من "دقتها" أو تزيد من "حقيقتها". وهذا، بعيداً من موضوعها نفسه، الذي ربما لا يقاس بالأرقام أو لا يحتاج إلى قياس في الأساس، تماماً، كما هو الوضع حيال المشاعر والعواطف. فالإحصائيات حولها تبدو، من ناحية، لا جدوى منها، ومن ناحية أخرى، تبدو أنها محاولة لضبطها داخل كادر حسابي، لا شك أنه لا يصيب، وأياً كانت مزاعمه العلمية بالارتكاز على الأرقام، فعلميّته هذه لا تصمد أمام تغير المشاعر والعواطف. فعلياً، رمي العقل الحسابي إلى قياس المشاعر والعواطف، علامة بائنة على كونه يجد في كل شيء موضوعاً له.

وبالتالي، يجد أن أي شيء يمكن أن يتحول إلى أرقام، وهو سرعان ما يُمحى خلفها حتى تصير متحكمة فيه. فيغدو معدل الفقر مثلاً هو الذي يؤكد وجود الفقر، وفي حال غيابه، يصير الفقر معدوماً، حتى لو كان حضوره بائناً للغاية. فحسابه هو الذي يتيح له أن ينوجد بطريقة مضبوطة، مؤطرة، بالأرقام التي تجعله مسألة احصائية، يمكن تصليحها عبر برمجة ما تخفض معدلها المرتفع. 

على هذا النحو، العقل الحسابي يريد ابتلاع كل موضوع، وهذا بالتحديد ما يسطر باجيس تحت ما يمكن تعيينه بفاشيته، لا سيما من ناحية مسعاه إلى إنتاج "ايتيكيت" يعلقه على الفئات المدروسة من قبله إلى الأبد، من قبيل العاطل عن العمل. إذ يتعلق هذا "الاتيكيت" على شخص ما، فلا يعود، وبحسب العقل الحسابي، سواه. وما عليه لكي لا يكونه سوى أن يحرك الأرقام التي تدل على حساب انتاجيته. في الواقع، وإن كان باجيس يشير إلى فاشية العقل الحسابي، فهو يشير أيضاً إلى فشله في أن يحصي  أي أمر. فتبقى هناك كميات ضخمة، لا يمكن أن يحسبها، وهي "الكميات المهملة" التي يهدي اليها باجيس كتابه، والتي، على الأغلب، هي الجميع: مئة على واحد، مقابل واحد على مئة.
(*) "ذات مرة واحدة على مئة" (il était une fois sur cent)، دار la découverte، 2021.