مريم خيرو...الموديل العاري وبدوية في بيروت

محمد حجيري
الخميس   2021/07/01
جاء في مدونة "أنتيكا" أن الجسد العاري في لبنان، كان حاضراً بقوة في أعمال رواد الفن التشكيلي مطلع القرن الماضي، أمثال داوود قرم وحبيب سرور ومصطفى فروخ وعمر الأنسي، ممن درسوا الفن خارج لبنان، وكان الكاتب رشدي معلوف يقول بأنّ "الزليطات خير مثال عن اللوحة الحديثة الناجحة". ومع تأسيس الجامعة اللبنانية كان الموديل العاري متواجداً في كلية الفنون في خمسينيات وستينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي، وكانت من أشهر الموديلات اللواتي عملن في الكلية، رينيه ديك(رحلت مؤخراً)، مريم خيرو وميشلين ضو. كنّ موديلات محترفات، "يتمتعن بسمعة طيبة في الوسط الفني"، لكن "سيطرة مليشيات ذات توجه ديني"، مؤدلج ومتزمت، على المنطقة التي تقع ضمنها الكلية، خلال سنوات الحرب الأهلية، أدى إلى منع مادة الموديل العاري ابتداء من العام 1983. في البداية، اعتقد الطلاب أن هذا الوضع مؤقتٌ، وأن الأمور ستعود قريباً إلى طبيعتها، لكن المنع ظل سارياً حتى بعد انتهاء الحرب. مارستْ المليشيات اللبنانية القتل والذبج على الهوية، ولم تتقبّل الموديل العاري في كلية الفنون. أطاحت مادة الموديل العاري واستُبدل جسد المرأة بالحصان، ووضع بعض الطلاب التشادور أو الحجاب على هيكل تمثال فينوس العاري، حتى أن رينيه ديك تعرضتْ للضرب بسبب مهنتها كموديل في إحدى الكليات... 

مريم خيرو
يسع المرء من خلال قراءة كتاب "حكاية جسد" لناديا النمار(دار النهار)، أن يستنبط تاريخ الفن ومساره وتحولاته ومشاهيره و"محرماته" و"قيوده الاجتماعية" من أواخر الثلاثينيات حتى التسعينيات. الكتاب يروي على لسان 16 فناناً لبنانياً (إيفيت اشقر، أمين الباشا، انطوان برباري، حليم جرداق، حسن جوني، الياس ديب، فضل زيادة، رفيق شرف، شوقي شمعون، ناديا صيقلي، نعيم ضومط، شفيق عبّود، عدنان المصري، جمال معلوف، سميرة نعمه، نقولا النمار).. وعلى لسانها هي "حكاية" مريم. وعبر أحاديث الرسامين تتبين وجوه مجهولة من تاريخ الفن وتاريخ معاهد تعليمه في لبنان.

ومريم خيرو أسطورة الموديل أو الجسد العاري الأكاديمي، الحورانية الآتية من نواحي درعا، والمقيمة في نواحي الأشرفية، أدخلها وجهها البدوي عالماً مهنياً جديداً، فصارت ملهمة ومعروفة لدى معظم جيل فناني ما بعد الاستقلال حتى التسعينيات، وقيل إن أبرز الفنانين تخرجوا من رسم "قفاها"... لم يكن عملها سهلاً، بدت حياة مريم محفوفة بالصعوبات والمشقّات، ونهاية هذه الحياة لم تخل من الطابع الدرامي، رغم أنها ظلت تعمل في هذا الحقل حتى سنواتها الاخيرة، ففي ختام حياتها وفي شيخوختها وجدت نفسها وحيدة كما لطالما شكت لزوارها في المستشفى، "لم يعد أحد يسأل عني، كلهم نسوني ونسوا فضل مريم عليهم".

بدأت سيرة مريم خيرو كموديل في العام 1937. كانت تعمل في منزل الشيخ موريس الجميل في الصيفي، وكان عملها يمتد خارج المنزل، إذ أوكل اليّها ايصال أوراق وأغراض إلى منزل الشيخ قيصر(الجميل) والسؤال عن "الست أم قيصر"، في شارع المعرض البيروتي نزولاً من التياترو الكبير. تقول مريم لناديا النمار بأنها، معظم الوقت، كانتْ تصل لاهثة إلى الطبقة الخامسة لعدم وجود مصعد كهربائي. لم تكن تعرف ذلك الرجل، صادفته وسط الزحام في الطرق، فبادرها بعبارة لطيفة بددت اضطرابها "تعالي يا زينة، لأصور وجهك". لم يلق الرجل صعوبة في اقناعها. كان يريد أن يصور وجهها في ملابس بدوية، وأعطاها المال. كان ذلك الرجل الفنان حبيب سرور، الذي خرج من دائرة الهواية والممارسة الدينية ليدخل دائرة الاحتراف. ومحترفه كان ضمن ممتلكات الوجيه ألفرد سرسق في حي السراسقة (تحول لاحقاً إلى نادي الطيران)، ويعتبر أول مدرسة لتعليم الرسم والتصوير، وهو المكان الذي احتضن الكوكبة الأولى من الرسامين اللبنانيين. ومن محترف سرور، انطلق صليبا الدويهي وعمر الانسي ومصطفى فروخ، ورشيد وهبي.

بعد اللقاء بين مريم وحبيب سرور، أخبرت مريم الشيخ قيصر بما حصل لها، فنظر إليها مبتسماً وأبدى استعداده لأن يؤمن لها عملاً مماثلاً في محترفه عندما يحين الوقت. لم يمض وقت طويل حتى طلب منها الشيخ قيصر أن تعمل لديه كموديل. لقد نفذ الوعد، وهي لم تنقطع عن التواصل مع حبيب سرور حتى العام 1939. كان يرسمها، وعندما ينتهي، يغطي اللوحة بشرشف أبيض، من دون أن يريها ولو مرة واحد ما كان يرسمه خلال تلك الجلسات التي كانت تستمر لساعات طويلة وهو صامت لا يكلمها. كان يرحب بها عند وصولها ويودعها عند الانتهاء من العمل بعبارة "يعطيك العافية"، ثمّ يعطيها بعض المال. كان يرسمها ولم تكن ترى وجهها في لوحات حبيب سرور. لم تر وجهها إلا عندما رسمها بثياب بدوية، لماذا رسمها بثياب بدوية لا تعرف.

كان عملها عند الشيخ قيصر يمتد لساعات يومياً. في المرة الأولى التي اصطحبها فيها من بيته الى محترفه، طلب منها أن تتبعه، وبدلاً من نزول الدرجات، اتجه صعوداً على السلم، فاسغربت الأمر وتملكها بعض الخوف، فسألته: "لماذا تذهب الى السطح، فطمأنها قائلاً إن محترفه يقع في بناء آخر إلى الجهة نفسها في شارع المعرض، وكانت شرفته تطل على مبنى مجلس النواب وساعة العبد، وبدأت الرحلة.

قيصر رسمها أيضاً لوحة تمثل "بورتريه" بدوية، كانت ترتدي ملابس حورانية، برقع أسود وسترة كحلية مزركشة بالأصفر في الجهة الأمامية، وحمراء مزركشة بالأصفر في الجهة الخلفية. كانت هذه السترة دارجة في الجنوب السوري، في حوران، وكانت تُرتدي على الوجهين، فمرة صوّرها بالأزرق، ومرة أخرى بالأحمر، كما أخذ عنها رسوماً كثيرة وهي بثيابها هذه. وهذا اشارة إلى تسلل الاستشراق الى فن قيصر الجميل وحبيب سرور.

كانت مريم تمضي معظم النهار في منزل الشيخ قيصر، لتعود في المساء إلى الغرفة التي سكنت فيها في منطقة الأشرفية-كرم الزيتون. خلال عملها كموديل كانت تهتم بالبيت الذي كان الشيخ قيصر يسكنه مع أمه، كانت تهابه وتخافه، لم تحبه هو بل أحبت مهنتها، وهذا ما ساعدها على "التحمّل بسبب لقمة عيشها وانتشال رغيفها من براثن بُخله"، كما تقول. كان يعطي القليل القليل في مقابل الأتعاب التي كانت تقدمها إليه. كان "بُخله متأصلاً فيه، يضن بالعطاء حتى حين يبتسم له الحظ".

كان قيصر الجميل متواضعاً، محباً للحياة وأنيقاً جداً، يرتدي دائماً قميصاً من حرير، وبذلة مكوية بلا طعجة، لا تفوته سهرة أو دعوة لعشاء، برفقة "المدام" التي كانت تقطن في منزل قرب مدرسة الحكمة في الأشرفية. كانت مريم خيرو تعرف أنه يحب امرأة ثرية "تنتمي الى المجتمع الراقي". أما جسد مريم أو موديلها فكان حبه الآخر. أكثر من مرة، في البدء، حاول ملامسة هذا الجسد ودغدغته، فصممت مريم على ألا تتجاوب معه بالقول "اتركني شو بدك مني". وعند تكرار التحرّش، كانت تطلب منه أن يوضح لها ما الذي يريده منها بالضبط، ما الذي يبتغيه من صبية فتية في مطلع شبابها وهو العاشق فقط لجسدها، والعاشق المتقدّم في العمر مقارنة بصغر سنها. عندها أخبرها أنه، قبل أن تعمل معه ويتعرف اليّها، كان يرتبط بعلاقة مع المدام، ويتردد على منزلها، فهمتْ منه أن تعلقه بتلك السيدة الثرية قد فرضته الضائقة المالية التي كان يعانيها انذاك. وقد غمرته بحنانها وعاطفتها، وبالهدايا والمساعدات، وأطلقته في محيطها الاجتماعي، فبادلها الحنو والعاطفة، ومع مرور الزمن وجد نفسه غارقاً ومكبلاً بحبها.

أم قيصر لم تكن مرتاحة لهذا الوضع، كانت تبكي وترجو مريم خيرو مراراً أن تتدخل لإقناعه بوضع حد لهذه العلاقة لاعتقادها بأن مريم تستطيع التأثير فيه، وأن لكلامها وقعاً على نفسيته، كوقع جسدها النضر. وتجرأت مرة وقالت للشيخ "خسارة أن تعرف قيمة يديك وفكرك. فلماذا لا ترضي الست الوالدة، وتبني حياة عائلية مستقرة؟ فغضب وطلب منها عدم التدخل في أمور لا تعنيها، وحجّته أن كفاه ما يعاني من تسلّط أمه وخرستين "الخادمة"، فكيف بتسلّط ثالث؟ لكنها لم تتعب من المحاولة، كما لم يتعب هو بدوره من الرفض والتعنيف.

(*) القسم الأول من مقال طويل عن الموديل العاري مريم خيرو، وهو من ضمن ملف "لبنانيات بهويات كثيرة".