زيارة افتراضية لثلاثية ميرو

روجيه عوطة
الخميس   2021/06/03
ينظم "سنتر مومبيدو" في باريس معرضاً افتراضياً لثلاثية خوان ميرو الزرقاء. فعلياً، زيارتي لهذا المعرض لم تكن مشجعة للغاية، بحيث أن التنقل بين أرجائه لم يكن يسيراً، بل غالباً ما كان يتقطع. السبب عطب في البرمجة على الأرجح، لم يستطع تنشيط التطبيقات إصلاحه. لكن، بعيداً من هذا التعثر، فمحبّ أعمال ميرو قد يجد في هذا المعرض، أو في إتاحته، فرصة لإعادة النظر في بعض اعماله، لا سيما الثلاثية تلك. بالطبع، كان من الأفضل، رؤية هذه الثلاثية مباشرة، من دون المرور بالافتراض، وهذا، لأن جزءاً من وقعها يتعلق بحجمها. فكل لوحة منها يبلغ ارتفاعها نحو أربعة أمتار، وفي حال وضع اللوحات إلى جانب بعضها البعض، فهي تشكل ما يشبه أفقاً كبيراً، يصعب الا تُثار الدهشة أمامه.

ما هو ذلك الأفق الذي خلقه ميرو؟ هذا هو الاستفهام الذي لا يفارق مشاهد الثلاثية، ومن أجل طرحه جيداً لا بد من تسييق موضوعه. فها هو ميرو ينتقل في بداية الستينات إلى مشغل ضخم، شيده له المهندس الشهير جوزيف لويس سير في مدينة ميورقة. في هذا المشغل، الذي يتسم بمساحة شاسعة، شعر ميرو أن الفراغ لا يمكن سده، ما أدى به إلى الشروع في رسم لوحات رحبة. ولهذا، استند إلى التجريد، ليس بنسخته الأميركية فحسب، بل الروسية أيضاً، من قبيل ماليفتش، وتالتين الخ. بحيث بدأ بما يشبه تصميم الفراغ ثم تلوينه، وبين الفعلين، وسّع لوحته، التي غدت بمثابة فضاء الفراغ، من أجل جعل زوايا رؤيتها، أو أبعادها، متعددة.



عند مشاهدة ما نتج عن هذه العملية التجريدية، أي الثلاثية نفسها، من الممكن القول فوراً بأنها، وبالانطلاق من قاعدتها إذا صح التعبير، تمثيل للسماء، لا سيما بسبب زرقتها. فميرو يريد من خلالها أن يتحدث عن الطبيعة الإسبانية، إلا أن حديثه هذا سرعان ما لا يعود ملتزماً بموضوعه، بل يقفز فوقه. فالأزرق ذاته، الذي يبدو قطعة من السماء، يتغير، لا سيما بسبب اللطخات، أو الدوائر السوداء فيه. مرة أخرى، تدفع المشاهدة الى اعتبار ذلك الأزرق كناية عن صورة مصنوعة بتقريب العدسة من مساحة مائية، تنعكس عليها السماء. وهذا، قبل أن تتخللها، وعند تظهيرها، دوائر سوداء. على أن هندسة هذه الدوائر تُرجع الثلاثية إلى كونها ليست صورة، إنما هي إبداء لشيء ما، يمكن التنبه اليه عبر المقارنة بين لوحاتها.

هذه المقارنة تدور حول أمر بعينه، وهو العلاقة بين الدائرة والخط، أو تدرّج هذه العلاقة من دائرة واحدة مع خط أسود، إلى دوائر عديدة تتجه صوب شخطة حمراء، ثم إلى انتماء هذه الشخطة بعد أن تغدو صغيرة، إلى الدوائر. قد تصح الإشارة إلى أن الدائرة، وبعد اجتيازها الخط، تكاثرت، وعندها، بدا انها تصطدم بتلك الشخطة، التي، ما إن تلقتها، حتى صارت منها. ما هذه الدوائر؟ ما هو هذا الخط؟ كيف تغير إلى الأحمر؟

يمكن أن تحل الأجوبة لانهائية، لكن هذا لا يلغي في الواقع أن اللون الأزرق يطغى على الأشكال المرسومة فوقه، بحيث أنها تطلع منه وتغرق فيه على حد سواء. وبالتالي، يكون هو مركز الجذب للمشاهدة، التي، وحين تمتلئ به، تماماً، كما يملأ هو فضاءه، تنقلب إلى ما يشبه فعلاً رئيسياً، أقدم عليه ميرو حين وضع ثلاثيته، وهو التأمل. هذا الفعل، وتماماً كما في تجربة هذا الرسام، ليس بحثاً عن معنى، إنما عن نوع من مصالحة مع اللامعنى، مع الأشكال، المجردة والحيوية، والحيوية لأنها مجردة، مثلما أنه تفتيش عما سمّاه ميرو ذات يوم "الحركة الجامدة"، أو بعبارة ثانية منه، "بلاغة الصمت".