بو برنهام: تباً، هل يصح المزاح في وقت كهذا؟

يارا نحلة
الخميس   2021/06/24
bo burnham
ماذا يفعل الكوميدي حين لا يرى حوله ما يستحق المزاح بشأنه؟ هل يكتئب وينسحب الى غرفته، أم يواصل خلق الدعابات بما تيسر من مشاهدات يومية مهما كانت مأسوية؟ ربما يمكنه القيام بالاثنين معاً، أي الاكتئاب والمزاح، كما فعل "بو برنهام" في عرضه الأخير بعنوان "Inside" أو "في المنزل"، والذي قام الكوميدي الشاب بإعداده وإخراجه وتصويره بمفرده، من بيته لصالح "نتفليكس"، خلال فترة الحجر المنزلي.


خلافاً لإطلالاته على المسرح، يخرج علينا بو برنهام في بثه الرقمي بهيئة مهملة؛ شعره أشعث، لحيته طويلة، وملابسه ليست أكثر من "بيجاما" أو سروال داخلي. انه المظهر النموذجي لشاب عالق في غرفته منذ ما يقارب العام. "فهل يمكن لرجل عالق في غرفته أن يكون مضحكاً؟". بواسطة الكوميديا الموسيقية (الغنائية)، يشاركنا برنهام هواجسه الداخلية تجاه العالم والكوميديا، وموقعه السياسي بالنسبة للاثنين. "هل اندثرت الكوميديا؟" يتساءل، و"هل يصح أن أمزح في وقت كهذا؟" 


يسخّر برنهام كوميدياه من أجل النقد اللاذع الذي تتجه أسهمه في كل مكان، فينال هو نفسه قسطاً وافراً منه. يعاين دوره كرجل "أبيض يريد مداواة العالم بالكوميديا بينما يتلقى أجراً ويستمتع بتسليط الأضواء عليه. وكأن العالم بحاجة الى الإرشاد من رجل أبيض مثلي!". يتحدى برنهام الادعاء القائل بأن للكوميديا أي أثر بنّاء أو تغييري، وبأن النكات قادرة على مداواة العالم أو حتى شخص الكوميدي نفسه. يعبّر عن شعوره بالعجز والتفاهة قائلاً "إن وجدت بيتك يحترق، لا تهلع! اتصل بي وسأخبرك نكتة". ثم يستنتج أنه من الأجدى أن يصمت بعد قرون من استئثاره (أي الرجل الأبيض) بالإهتمام. لكنه لا يصمت. ففي فمه المزيد من النقد الذي لا يخصه وحده كفرد، بل المنظومة العالمية التي تسحق الأفراد، وهو واحد منهم.

في قالب موسيقي فرح، على نحو شبيه بأغاني الأطفال، يتحدث الكوميدي عن فظائع كالإبادة الجماعية، والحروب، والشبكة العالمية لرأس المال "التي تعمل بشكل أساسي على فصل العامل عن وسائل الإنتاج". المذنب الأكبر، وفق سردية برنهام، هو الشركات الكبرى التي بسطت سيطرتها الكاملة علينا. في أحد "الاسكتشات"، لا يكلف برنهام نفسه عناء النهوض من فراشه، في إشارة واضحة الى الاكتئاب، ويقول ساخراً: "ربما لم يكن خياراً حكيماً أن نترك الشركات الكبرى تستغل الدراما النيورو-كيميائية لأطفالنا بهدف الربح".

يشبّه برنهام، العالم الافتراضي، بحلقة مفرغة من الاستغراق الذاتي الذي يثير الاشمئزاز من هذه الذات. فهذا العالم المرآتي يسمح بتضخم الأنا وبتحطيمها في الوقت نفسه. وهو، إذ يتيح لنا استعراض ذواتنا، فإنه يحتم علينا أيضاً مراجعتها بشكل مستمر. هي مراجعة غالباً ما تفضي الى النقد القاسي وجَلد الذات. يجسد برنهام هذه الحالة بواسطة "اسكتش" يقوم فيه بتسجيل أغنية ثم يسجل ردّ فعله عليها، ثم ردّ فعله على ردّ فعله الأخير، وهكذا دواليك. "إنها حيلة دفاعية بصراحة، أنا قلق جداً من النقد، فأنتقد نفسي قبل أن يسبقني أحد إلى ذلك"، يعترف.

يستمر برنهام في رفع مستوى السوداوية والتشاؤم، وصولاً الى الحديث عن ميوله الانتحارية في سياق بلوغه سن الثلاثين؛ تلك اللحظة المرعبة في حياة كل شاب عشريني، فما بالك إن كان قد أمضى العام الأخير من عشرينياته وهو عالق في غرفة؟ ما الجدوى من الاستمرار؟ "أستطيع تحمل 10 سنوات إضافية"، يعلن برنهام طارحاً خيار الانتحار بكل "طرافة" ولا مبالاة. على وقع لحن حماسي، يغني برنهام عن صحته النفسية المتدهورة. "أنا لست بخير"، يقولها وهو يرقص وسط مؤثرات بصرية وأضواء معدّة للحفلات الصاخبة، ثم يصف نفسه بالـ"حقير وعديم الفائدة"، من دون أن يتوقف عن الرقص.
 

بالنسبة إلى شخص مكتئب وميال للعدمية، بذل برنهام جهداً جباراً من أجل إعداد عرض متكامل بمفرده، ومن غرفة لا تتجاوز بضعة أمتار. لم يكتف بعزف بعض النوتات الموسيقية على البيانو كما يفعل عادة في عروضه الحية، بل أرفق مَشاهده بموسيقى الكترونية من إنتاجه. وفي غياب خشبة المسرح وتفاعل الجمهور، اضطر إلى خلع قبعة المؤدي الكوميدي وارتداء قبعة الممثل القادر على تجسيد مختلف أنواع العواطف وردود الأفعال.

لكن على امتداد العرض، الذي استغرق إنجازه ما لا يقل عن ستة أشهر، لم يجد الكوميدي فائدة مما يفعله، خصوصاً أن لا سامع يصفق أو يقهقه. يعبّر عن عبثية الموقف عبر إضفاء مؤثرات صوتية لجمهور ضاحك. هو لا يقارب الكوميديا من موقع رومانسي، ولا يدعي أن مقاربة الواقع من منظار هزلي هي أمر صحي أو ذو قيمة. يعي برنهام أنه "لا يوجد سوى مسألة فلسفية جادة حقًا، وهي الانتحار" كما يقول ألبير كامو. لكنه يستمر في إطلاق النكات بوجه هذه الحقيقة الهزلية والتراجيدية في آن، وذلك إلتماساً للوضوح وشفافية الإدراك التي تحدث عنها كامو بقوله ان "العبثية هي الإدراك الذي يعرف حدوده".