جيل السبعينيات الشعري وديكتاتورية الآباء

بشير البكر
الإثنين   2021/06/14
نوري الجراح
جيل السبعينيات الشعري في سوريا محظوظ من جهة، وسيئ الحظ من جهة أخرى. فهو أولاً صاحب مشروع واضح، وله إنجازه الثري الذي يشكل حصيلة مهمة بالمقارنة مع الأجيال التي سبقته والتي جاءت بعده. وتميز هذا الجيل بما قدمه على صعيدَي الكمّ والنوع. نهض قبل كل شيء بمهمة كتابة قصيدة مختلفة في الشكل والأدوات، عن القصيدة التي كتبتها أجيال الحداثة التي سبقته، وهي في غالبيتها التزمت شكل قصيدة التفعيلة.

وجد جيل السبعينيات السوري الشعري، نفسه، أمام خيارين شكليين في الكتابة الشعرية. الأول هو قصيدة التفعيلة التي كانت دارجة ومنتشرة على نحو كبير. ولها رموزها المكرسة التي لا يمكن لأحد التجاسر عليها مثل علي الجندي، فايز خضور، محمد عمران، ممدوح عدوان، علي كنعان..إلخ. كما أنها تمكنت خلال زمن وجيز من أن تصبح سلطة في يدها أدوات، ولها منابر على مستوى العالم العربي، لا سيما في العراق، مصر، لبنان، وفلسطين. والثاني هو قصيدة النثر التي كانت نخبوية وتدور في فلك تجربة مجلة "شعر" التي شكلت تياراً من أهم رموزه أدونيس وأنسي الحاج، يوسف الخال، وفؤاد رفقة.

كان على هذا الجيل أن يختار الشكل الذي يناسبه من جهة، ويقدم إضافة جمالية جديدة إلى ما قدمته الأجيال التي سبقته. وكانت المهمتان صعبتين، لكنهما لم تكونا مستحيلتين. صحيح أن هذا الجيل استفاد من تجربة قصيدة النثر في منجزيها اللبناني الذي مثلته مجلة "شعر"، والسوري الذي قدمه محمد الماغوط، إلا أنه سرعان ما قدم اقتراحه الخاص بعيداً من النموذج الذي ساد لقصيدة النثر. وإذا نظرنا إلى بعض شعراء هذا الجيل، مثل رياض الصالح الحسين، نوري الجراح، خالد درويش، سنجد أنه لا يتقاطع مع التجارب السابقة، بل يختلف عنها، ويتميز، ويجد مكاناً خاصاً، وحضوراً في بيئة ثقافية أكثر رحابة وامتداد جغرافيا لم تصله تجربة مجلة "شعر" التي بقيت نخبوية، باستثناء الماغوط الذي يُعد ظاهرة فريدة، كما هو بدر شاكر السياب في قصيدة التفعيلة.

ومن سوء الحظ الذي لحق بجيل السبعينيات أنه لم ينل حقه من الدراسة والأضواء، وبالتالي التكريم الذي يستحق، وهو يتشارك بهذا الإهمال وعدم الاعتراف مع بقية الأجيال الشعرية التي تلته. ويمكن القول أن ما أصاب الأجيال اللاحقة، يتجاوز بأضعاف مضاعفة ما تعرض له جيل السبعينيات، ويمكن على هذا الأساس دراسة أسباب هذا الخلل في الحركة الشعرية السورية، والذي ينسحب على غالبية نظيراتها في البلدان العربية.

نحتاج إلى دراسات كثيرة من أجل تحديد الخلل، وتقع المسؤولية الكبرى على المؤسسات الثقافية التي هيمنت عليها السلطة، واتبعت سياسة تمييز صريحة، تقوم على إقصاء الأصوات الشعرية المُعارضة. ولا أبالغ إذا قلت أن جيل السبعينيات السوري وقف في غالبيته في صف المعارضة الثقافية أولاً، وهذه المعارضة استندت إلى مسألة مهمة، وهي رفض الدخول إلى المؤسسات الثقافية والنشر في منابرها ضمن الشروط المطروحة. لذا لم ينشر من طريق اتحاد الكتّاب إلا فئة قليلة استفادت من العلاقات الشخصية، في حين أن البقية لجأت إلى المنابر ودور النشر في لبنان في البدايات، ولاحقاً في دور نشر تأسست في بلدان أخرى، وخصوصاً في أوروبا.

وحين نقول إن هناك غبناً كبيراً وقع على جيل السبعينيات أكثر من غيره، فإننا نقصد أنه لم ينل حقه من المنابر الثقافية، ولا ننشد له الاعتراف من أحد لأنه فرض حضوره من خلال منجز كبير يمثل إضافة أساسية في الشعرية العربية. وهناك مسألة أخرى، تتعلق بالاعتراف بالمنجز الذي قدمه جيل السبعينيات من قِبل الأجيال التي سبقته، وباستثناء عد قليل من رموز التفعيلة، تحولت الأجيال السابقة إلى سلطة قامعة لقصيدة النثر. وهذا لا يعني أن الذين كتبوا قصيدة التفعيلة من هذا الجيل استطاعوا تجاوز الحواجز التي نصبها أباطرة التفعيلة في طريقهم، بل تكاد تكون الشروط ذاتها التي واجهت جيل السبعينيات. وهنا يمكن القول بأن العقبة ليست في الشكل فقط، بل بما يمكن أن نسميه ديكتاتورية الآباء من دون تردد، والذين وصلوا بقصيدة التفعلية إلى طريق مسدود، ولم يتردد بعضهم في تجريب شكل قصيدة النثر كاعتراف منهم بما حققه هذا الشكل من فرصة فعلية للتجريب وتوسيع الفضاء الإبداعي، بعيداً من مسطرة الشكل الواحد التي تحاصر الكتابة وتخنقها.