محمد بورويسة: الصورة بوصفها عنفاً

شادي لويس
السبت   2021/06/12
بورتريهات بورويسة
في سنوات الثمانينات، أعاد المصور الأميركي الأسود، جمال شاباز، تعريف فن البوب. صُور نجوم هوليوود، حلّت مكانها بورتريهات سكان الأحياء السوداء في نيويورك، وظلت تيمات اليومي والاستهلاكي حاضرة بقوة في صور الشارع تلك، لتظهر بجلاء في ثقافة وأزياء وحليّ موجة الهيب هوب الصاعدة حينها.

لاحقاً، يأتي الفنان الفرنسي الجزائري، محمد بورويسة، ليعيد التجربة بين العامين 2003 و2005، لكن في شوارع باريس هذه المرة، حول محطة "شاتليه ليه هال"، مركز تلاقي الشباب من سكان الضواحي. بورتريهات بورويسة المعروضة في غاليري غولد سميث اللندني، حتى أول آب/أغسطس2021، تقدم صورة باريس الأخرى، باريس البعيدة. وجوه ملونة وسوداء، قسمات فخورة مع قبعات بيسبول، بِيض من الطبقة العاملة، نظرات خشنة توحي بالخطورة أو تدّعيها بملابس ماركة لاكوست، أزياء ولغة جسد على نمط فرقة "أرسينك"، تتداخل فيها ثيمتا الاستهلاك والمقاومة معاً، بشكل يصعب معه تمييز كلٍّ منها بشكل منفرد.

في كتابه "ثقافات العولمة"، يشير المنظّر الأميركي فريدريك جيمسون، إلى الثقافة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية، كواحدة من أبرز المحاولات الأوروبية لمقاومة العولمة، وثقافتها الأميركية المهيمنة. لكن لكل محاولة للتمرد، مهما كانت محدوديتها، ضحايا أيضاً، تُفرض عليهم "قيم الجمهورية" والذائقة الفرنسية بمعيارها البرجوازي. فبشكل أو بآخر، تظل المقاومة قوة هيمنة في نطاقها المحلي. تكشف لنا فوتوغرافيا بورويسة، تبنّي المعولم، في صورة ثقافة الهيب هوب ذات الأصول الأميركية، كأداة للمقاومة في الضواحي الباريسية. هكذا يتم تبديل الأدوار، فيصبح الضد-عولمي أداة هيمنة، والمعولَم المهيمِن أداة مقاومة، والمشترك بين هذا كله هو الاستهلاك، بمعناه المادي والمباشر.



ينقلب هذا التمرد البصري إلى أحداث شغب حقيقية تضرب ضواحي باريس في خريف العام 2005، ويعرض بورويسة تدفق التمثلات البصرية لذلك العنف في وسائل الإعلام الفرنسية، عبر سلسلة من الصور الفوتوغرافية بعنوان "الهوامش" (2005- 2008)، تعرض تشكيلات من شباب الضواحي تحاكي وتعيد تركيب أعمال فنية كلاسيكية، وبالأخص أعمال ديلاكروا. فالعلَم الفرنسي المرفوع في لوحته "الحرية تقود الشعب" نراه وهو يتم إنزاله في صورة بورويسة المعنونة "الجمهورية". 



الجمهورية
لكن العنف على مستوى الصورة، يرافقه عنف على مستوى اللغة أيضاً. في فيديو بعنوان "ناصر" (2019)، يقف رجل، هو عم بورويسة، ليقرأ خطاباً يُعلِمه بحكم قضائي عليه بالسجن، بتهمة المشاركة في عملية سطو. نرى ونسمع العم وهو يقرأ ببطء، بكثير من اللجلجة والتعلثم، حتى أن الكثير من الكلمات يظل غير مفهوم للمستمع، وله هو أيضاً، فالمسافة بين لغة القضاء وبين هؤلاء المحكومين به تبدو شاسعة بشكل صادم.

في عمله "وقت مستقطع" (2009) يعرض بورويسة فيديو يجمع عدداً من الصور من داخل السجن، تبادلها أحد المساجين معه من الداخل، في مقابل شحن رصيد هاتفه، إضافة إلى صُور من حياة الفنان في الخارج. علاقة التبادل هذه، تقف على الحدود الفاصلة بين العملية التجارية والصداقة، وتدفعنا إلى مسألة الفروق بينهما، لكنها توحي أيضاً بعنصر من الاستغلال الضمني. فأعمال بورويسة، بشكل غير مقصود على الأغلب، تؤكد التنميطات الرائجة حول الضواحي وسكانها، وتفتح نافذة أمام مرتادي الغاليريهات الفنية من الطبقات المتوسطة البيضاء، للتلصص بشبق على هذا العالم المثير والخشن للجريمة والسجون والفقر، في أمان وبلذّة جمالية. 



سارقو المتاجر
يتناول بورويسة تلك الإشكالية بشكل واعٍ ومباشر في سلسلته الفوتوغرافية المعنونة "سارقو المتاجر" (2014). ففي نيويورك، يكتشف الفنان عدداً من الصور معلقة على الحائط وراء البائع في متجر للبقالة بحي بروكلين. وكل صورة تعرض شخصاً ضُبط متلبساً بفعل السرقة، وهو يمسك البضائع التي حاول سرقتها، ومعظمها مواد غذائية. تم التصوير في عملية تبادل أخرى، حيث التقطها البائع في مقابل ألا يُسلّم أصحابها إلى الشرطة. هنا يتجلي الجانب العنيف من التصوير، بوصفه انتهاكاً وبوصفه عقوبة. في النص المصاحب للمعرض، يسائل الفنان مدى أخلاقية عرض تلك الصور في الغاليريهات الفنية، ويقرّ بإشكالية الأمر، لكنه يكتفي في النهاية بتصريح من مالك المتجر بعرضها.

بين باريس ونيويورك، تتناول أعمال بورويسة موضوعات خشنة، ويطرح أسئلة أكثر خشونة بشأنها، ولا يدّعي إجابتها، أو ربما يتفاداها عمداً، ليتركنا مع قناعة مقلقة بأن كل ما يمكن أن يوظَّف كعنصر للمقاومة، يمكنه أيضاً أن يكون أداة للانتهاك، وفي كل الأحوال مادة جيدة للاستهلاك.