من حقّها أن لا تُرضِع!

رشا الأطرش
الجمعة   2021/06/11
فلنضع جانباً منشورات ذكورية وتحقيرية مشينة – ومنها ما هو منحرف أيضاً – يكتبها في السوشال ميديا "متعلّمون" ومسؤولون/ات، بل و"أطباء أطفال" أحياناً! تلك المُفترض أنها تبغي إعادة النساء-الأمهات اللبنانيات إلى رشدهن الذي فُطرنَ عليه، وتشجيعهن على استعادة تقاليد الرضاعة الطبيعية في ظل فقدان حليب الأطفال من الأسواق والصيدليات، خصوصاً الأطفال في العام الأول من العُمر. فهذه تعليقات مقززة بالمعنى الإنساني، قبل معايير الدفاع عن كرامة المرأة في جسدها وعن امتلاكها للقرارات بشأنه وحقها البديهي في المستلزمات المكمّلة لهذه القرارات. تعليقات لا يجب أن يُسمح لها باختراق جدليات الرضاعة، التي تُعتبر، في دول محترمة، عناوين سياسية وحقوقية بامتياز قد تُسقط وزارة أو تُفشل حملة انتخابية.


ولنضع جانباً، لبرهة أيضاً، الخطاب الذي، ومن دون أن يخلو من صواب في بعض وجوهه، يستعرض منظومة طويلة عريضة لثقافة استهلاك وتسويق لصناعة وتجارة متكاملتين في ما خص حليب الأطفال الذي يشجع عليه الكثير من الأطباء في لبنان من دون مسوغات صحية وطبية فعلية، حتى ما بعد العام الأول من عمر الطفل الذي يصبح حينها قادراً على شرب حليب البقر العادي وتناول الألبان والأجبان. وذلك، كما يقال، من أجل عمولات واتفاقيات مع شركات مصنّعة أو موزّعة. فهذا الخطاب له ردّ بديهي تحت عنوان الرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد، أسوة بأي خلل أو تضليل مؤثر في اختيارات المواطنين وصحتهم. وله أيضاً جدال من الباب الموازي، أي الصناعة والتجارة المحيطتين بسوق الرضاعة الطبيعية، واللتين لا تقلّان حيوية تسويقية ومبيعات، من مضخّات حليب الثدي، إلى حمّالات الصدر الخاصة بالمرضعات وضمّاداتها، والمكمّلات الغذائية والأعشاب المدرّة للحليب، ناهيك عن سوق عمل جديد لـ"مدرّبات على الرضاعة" (وقبلهن قديماً كانت الدّايات والمُرضعات البديلات). فقيام سوق حول خدمة أو سلعة ما، أمر طبيعي وربما حميد ومفيد، وليس في حد ذاته مريباً أو شائناً، والركّ على الحوكمة والضبط بالقانون من أجل المصلحة العامة.


والحال بعد هذا كله، يبدو أن خطاب "الأمومة الطبيعية" (ويجوز القول أيضاً: الأصولية)، يشهد ازدهاراً إضافياً في ظل الأزمة اللبنانية الراهنة. خطاب بنبرات متفاوتة ما بين النصائح الودّية المبطّنة بالأستذة و"إقترِبنَ لأخبركنّ بما عليكنّ فعله وعَيشه والشعور به كأمهات"، مروراً بمشاركة استعلائية افتخارية لتجارب شخصية "ناجحة" رغم صعوبات وتحديات متوّجة بخلاصة "إذا أنا استطعت.. لماذا لا تستطعن جميعكن؟!"... ووصولاً إلى التهكّم، وحتى زجر الأم "الدلوعة" التي يُزعَم أنها لا تُرضع خوفاً على شكل صدرها أو لأنها، ببساطة سريعة السأم من عملية تحتاج مثابرة وصبراً، وبالتالي يُقال خِفيةً بين السطور أنها "الأمّ الأقلّ". هذا الخطاب، الذي يشارك فيه رجال ونساء، منخور بمآزق أخلاقية وجندرية وثقافية كثيرة، على رأسها اثنتان فاقعتان لا تُحتملان.

المشكلة الأولى أنه تنظير التثقيف الصحي من زاوية العودة إلى الجذور والفطرة البيولوجية، في زمن القحط والإفلاس والانهيار، والحقوق – كل الحقوق – المهدورة. إنه التسامي المريض والخبيث فوق الكارثة الاقتصادية، لمطالبة مَن تقع عليهم/ن المعاناة، ليس فقط بإنفاق الطاقات في التأقلم والحلول الالتفافية، بدلاً من إعلاء الصوت في وجه الدولة والتجار المحتكرين مُخزّني البضائع على حد سواء، وربما التفكير في وسائل ضغط لتفعيل رقابة ما (أجهزة رسمية أو شعبية بديلة) لمكافحة ظاهرة اختفاء حليب الأطفال (مثل سائر السلع الغذائية) ثم ظهوره بأسعار جديدة أعلى. بل أيضاً مطالبة الأمهات بالانتشاء بهذا البذل التغييري، وأن يقتنعن بأنهن هكذا يُسدين أنفسهن وأولادهن خدمة، على طريقة ربّ ضارة نافعة، و"كُوني إيجابية" وابتسمي للمصيبة كي تتمكني من التعرف على الجانب المشرق فيها، وقاوِمي بخياراتك الصحية! خطاب السلطة الفاشلة والفاسدة يُتبنَّى في سياقات "أحبّي نفسك وأولادك.. وتعالي نعلّمك أمومتك"!

وفي ذلك، لا يختلف هذا الخطاب، عن ذاك الذي يحيل اللبنانيين إلى تراث الأجداد الذين لم يمتلكوا كهرباء ولا انترنت، وكانوا مكتفين ومرتاحين، مسرورين وطويلي الأعمار! لكن شعارات الزمن الجميل على أضواء الشموع ومصابيح الكاز، بل والنوم مع غياب الشمس، سرعان ما وجدت من يهشّمها وينفيها، سواء بالسخرية أو التقريع، على عكس موضوع مصادرة قرار الأم بالعودة إلى الرضاعة، بصرف النظر عن أسبابها الشخصية والطبية والنفسية التي يُتوقَّع منها أن تصوغ منها خطاباً تبريرياً واعتذارياً (وحتى لو كان ما يسمى زوراً بالدلع، فحقها الاختيار وحقها أن تحصل على البدائل، وأن تحصل عليها بالطريقة والسعر العادلَين، ثم تقرر لنفسها!). بل إن هذا الموضوع يصبح نقاشاً ثقافياً وصحياً، ويكتسب مشروعية لا يستحقها، مستفيداً من موجة عالمية متصاعدة منذ سنوات للتبشير الروحاني والغذائي بـ"الحياة البديلة". نقاش زائف، بات الآن مناصراً لحملات كسر تعيير المرضعات في الأماكن العامة، وهي حملات محقّة لكنها تُستعاد هنا لتسويغ الباطل، لتزويق بشاعة الأزمة والتقصير واللصوص وانتهاك الحق في الاختيار.. ولرفد ثقافة الخزي تجاه اللا-مُرضعات! ولعل ما يزيد الأسف أن لبنان، في عز حربه الأهلية وتدمير بُناه الحداثية، ومنذ أكثر من ثلاثة عقود، استطاع، خلافاً لليوم، أن ينتج لهذا الهراء خطاباً مضاداً/هازئاً، ولو جاء من الهامش دون المتن، إذ صَدَّره آنذاك زياد الرحباني: "يمكن رح ينقطع النيدو بهاليومين.. إمّك في عندا بِزَّين.. شي عجيب كيف ماشي!". 


أما المعضلة الثانية، فتتمثل في شرخ يعانيه الخطاب النسوي عالمياً. وفي لبنان يمسي الأمر نوعاً من التشوّه، بفعل الأزمات والبُنى الطائفية ورجعية السلطات القضائية والاجتماعية والروحية. الشرخ العالمي بين نسوية اليمين واليسار، إن صح التعبير، يتمظهر مثلاً في قضايا من نوع الإجهاض (اليمين غالباً يناهضه، واليسار غالباً يدعمه). أما في لبنان، لا سيما خلال العقدين الماضيين، فقد نحا الخطاب النسوي، أسوة بالعديد من العناوين الحقوقية والمدنية، صوب اليسار (من دون أن يعني بذلك بالضرورة يسارية سياسية أو إيديولوجية كاملة لحامليه وحاملاته). وهذا ما جعل النسوية اللبنانية واحدة من المداميك الجديرة بأن تُبنى عليها استراتيجيات مواجهة السلطة وتقويمها. نسوية تدافع عن حق المرأة في جسدها، بكل المعاني، الجنسية والطبية، حقها في استخدامه أو حجبه كما تريد وبمعاييرها. نسوية تتبنّى قضايا التمييز ضد الهويات الجندرية المغايرة، وتتنكّب حملات الكوتا النسائية في المناصب العامة، والجنسية لأولاد الأم اللبنانية، وتثور على جرائم الشرف بالنضال القانوني وحتى اللفظي. تكافح الاغتصاب وتشهر بالمتحرشين، بالثقافة والإعلام والقانون، وتصرخ في وجه مَن يقول إنه نتيجة طريقة في اللباس أو المشي، الكلام أو السهر أو المواعدة.

هذه النسوية، التي لم نتلمّس في لبنان منافساً يمينياً فعلياً لخطابها وحراكاتها (كما في الولايات المتحدة مثلاً)، لا تبدو اليوم معنية بجدليات "أرضِعي طفلك واصمتي"، رغم أن الموضوع صار مدججاً بأكثر من رمزية سياسية واقتصادية وثقافية وحرياتية. فهل هي هالة الأمومة المقدسة، لا تزال، في اللاوعي المشرقي، إلى الحد الذي يهضم حق الأم في صياغة أمومتها كما تشاء وبمفردات العصر وسلعه وتنوع مدارسه الطبية؟ ولماذا توقّف البوح والتحشيد عند إزالة الوصمة عن اكتئاب ما بعد الولادة (وهذا إنجاز جميل)، ولم يمتد إلى علاقة الأم برضيعها؟ هل لأن الاكتئاب ما زال محصوراً في دائرة الأم وحدها دون وليدها؟ ولماذا الخوف، إن كان خوفاً، من لمس الحلقة التالية، الرابطة بين المرأة وطفلها؟ الإجابات تحتاج بحثاً، لكن المؤكد أن رائحة كل هذا الحليب ما زالت تكتم أصواتاً كثيرة لا تجد من يعبّر عنها.