ألكسندر ناناو لـ"المدن": هكذا صنعنا فيلماً عن الفساد

محمد صبحي
الأربعاء   2021/05/05
"أردت التحقيق في الأكاذيب التي أخبرتنا بها الحكومة"
في فيلمه الوثائقي "كوليكتيف"، يرافق المخرج الروماني ألكسندر ناناو(*) خلية من الصحافيين الاستقصائيين أثناء كشفهم واكتشافهم انتهاكات عديدة في السياسة ونظام الرعاية الصحية في أعقاب كارثة حريق نادٍ ليلي في العاصمة الرومانية بوخارست العام 2015، أودى بحياة 64 شخصاً. أدّى التدافع وعدم وجود مخارج الطوارئ إلى وفاة 27 شاباً على الفور، كانوا يحضرون حفلة لإحدى فرق موسيقى الميتال. لكن الأسوأ هو ما حدث في الأسابيع التالية. رفضت الحكومة إرسال المصابين إلى مستشفيات ألمانيا المجاورة، وبعد أيام قليلة، توفّي أيضاً 37 شخصاً (حتى أولئك المصابين بحروق طفيفة في ما لا يزيد عن 15٪ من أجسادهم)، متأثرين بالعدوى الناجمة عن الإهمال الطبي ونقص تجهيزات الرعاية المتحصصة.

هذا ما كشفته تحقيقات الصحافي كاتالين تولونتان وفريقه من إحدى الجرائد الرياضية (بعدما أًممت ودُجّنت جميع الصحف ووسائل الإعلام). نُقل المصابون إلى مستشفيات غير مجهّزة، فأصابتهم عدوى، وشركة الأدوية المتعهدة بتوريد مستلزمات طبية للمستشفيات باعتها جرعات مخفّفة من المطهرات. هذا مجرد غيض من فيض عملاق من الفساد وسوء الإدارة (يبدو مألوفاً؟). ترشَّح الفيلم لجائزتي أوسكار، من دون الظفر بإحداهما، لكن ذلك لا يقلّل أبداً من شانه ولا ينتقص شيئاً من فجاعته وإلحاحه وأهميته.

"كوليكتيف" ليس أقل من رحلة استكشافية مفجعة تنتقل من المفاجأة والصدمة إلى الحيرة والاستغراب وصولاً للاشمئزاز وضرب الأكفّ غضباً ويأساً من استحكام دائرة فساد وسياسات مافياوية تعصف ببلدٍ لم يخرج بعد من ليل حكّام وسياسيين لا يعرفون أخلاقاً ولا نبلاً ولا أي شيء سوى مراكمة الأكاذيب والعيش بها والبناء عليها. فيلم محموم وحزين ينبض بالواقع ويحفر عميقاً في روث من الفساد المؤسساتي والسياسي دون أن يصل إلى قعرٍ. لأن هذا بئر بلا قاع، وديمومة معاشة تبدو بلا نهاية في الأفق. غير أن الفيلم أيضاً، ببطليه الصحافيين الاستقصائيين في جريدة رياضية، وبطلات شجاعات عديدات على طول مشوار الاستكشاف والبحث، يقول، ضمن ما يقوله، أنه لا يزال هناك أمل لهذا البلد العضو في الاتحاد الأوروبي.


"المدن" التقت مخرج الفيلم، فكان الحوار التالي.

- كيف بدأ الفيلم؟

بعد كارثة الحريق، أردت التحقيق في الأكاذيب التي أخبرتنا بها الحكومة، جنباً إلى جانب أكاذيب أخرى أطلقها الأطباء ومديرو المستشفيات. لأنه منذ البداية قالوا إن النظام الصحّي الروماني كان على مستوى المهمة وأنه يمكن إنقاذ ضحايا الحريق، وهو ما لم يكن كذلك في كثير من الحالات. تم الدوس على حقوق الإنسان بالأقدام، وأردت إلقاء الضوء على ذلك. في الوقت نفسه كانت هناك مظاهرات كبيرة ضد الفساد بعد الحريق، لأن النادي لم يستوف أي متطلبات أمنية ولم يكن هناك مخارج طوارئ. كنت مهتماً بما كان يحدث أخيراً في هذه الديموقراطية حديثة العهد في رومانيا واعتقدت بإمكانية حدوث تغيير ينجزه الجيل الجديد.

- لكن في البداية تواصلت مع بعض الصحافيين الاستقصائيين؟

يبدو أن الصحافة كلها فشلت في الأيام الأولى بعد الكارثة وصدّقت هذه الأكاذيب. فقط هذه المجموعة بقيادة الصحافي كاتالين تولونتان في الصحيفة الرياضية "غازيتا سبورتوريلور" بدأت في فضح هذه التصريحات الكاذبة من قبل السياسيين والأطباء. قاموا بتحقيق استقصائي موسّع انتهى إلى أن العديد من المتوفين في المستشفيات قضوا نتيجة مضاعفات سبّبها وجودهم في مستشفيات متردّية تُستعمل فيها مطهرّات مُخفَّفة، ما أدى لإصابتهم بعدوى مميتة.

- في الفيلم نرى متابعة دقيقة للصحافيين أثناء عملهم واجتماعاتهم. هل مُنحتَ الثقة سريعاً؟

أول الأمر عارض تولونتان وزملاؤه تماماً مرافقتهم بالكاميرا، وأصّروا على أن تظلّ غرفة الأخبار فضاءً محمياً، وأن المعلومات المتداولة هناك سرية مثل مصادرهم. فقط عندما رأوا العمل الذي قام به فريق التطوير والبحث الخاص بنا، والذي شمل أيضاً صحافيين، أدركوا مدى جدّيتنا.

- وماذا عن المبلغين عن المخالفات وكاشفي الفساد من العاملين في القطاع الطبي؟

قيل لنا عندما كان يُنتظر قدوم أحدهم للصحيفة للإبلاغ عن واقعة فساد أو الإدلاء بشهادة، أن "لدينا خمس دقائق، وإذا وثقوا بك وسمحوا لك بالتصوير، فعندئذ يمكنك أن تحضر، وإلا فعليك المغادرة"، كانت هذه هي الرسالة الواضحة. كنا دائماً نتواصل بشكل واضح مع ما نحن بصدده ،وأننا لن ننشر أي شيء حتى يتم الانتهاء من الفيلم.

- ما انفتح أمام عيونكم كان شبكة مروعة من الفساد والأكاذيب والانتهاكات في النظام الصحي الروماني. هل توقّعت شيئاً كهذا؟

لا، لم أكن أتوقع أن يكون الأمر بهذا السوء. بالطبع، كدولة شيوعية سابقة، تتمتع رومانيا بتقليد معيّن من الفساد. لكن ما كشفه تولونتان وزملاؤه وكل ما حدث في هذا السياق، لم يتوقعه أحد. لقد اندهشنا جميعاً. وحدثت الأشياء بهذه السرعة التي كان علي خلالها أن أتخذ قرارات إنتاجية: كيف يمكننا التقاط ما هو مهم، وكيف يمكنني ترجمته إلى سينما. كان عليك أن تفهم بسرعة ما كان يحدث بالفعل. من الصعب فهم حقيقة أن شركة طبية ما تستخدم المطهرات المخفّفة لتزويد المستشفيات بها. وكان هذا أول ما كُشف عنه من كثير.

- ما الذي صدمك أكثر؟

كان الفساد يحدث على مستوى لاإنساني، وهذا صدمني. خصوصاً موقف الأطباء. أن يقف الأطباء بجانب السياسيين ويكذبوا. أن يقولوا إنهم يستطيعون علاج هؤلاء الأشخاص على الرغم من معرفتهم أن مستشفياتهم مليئة بالعدوى القاتلة وأن هؤلاء المرضى ليس لديهم فرصة للنجاة. كان ذلك في حد ذاته صدمة. حتى عندما نُقل ضحايا الحروق أخيراً - تحت ضغط دولي - وعولجوا في ألمانيا، على سبيل المثال، لم يرسل الأطباء الرومانيون في تقاريرهم أي معلومات حول العدوى البكتيرية حتى لا يعطوا أي فكرة عن الظروف. أدّى هذا إلى وفاة العديد من هؤلاء الناس.



- من أين تنبع هذه التجاوزات برأيك؟

النظام الصحي الروماني بأكمله يجب إصلاحه. لأن كل ذلك يبدأ في كلية الطب، حيث يتعيّن عليك الدفع للأساتذة، ويستمر عندما يتعيّن عليك الدفع للحصول على الوظيفة التي تريدها في المستشفى. النظام برمته مبني على الفساد وليس على التقدم الطبي أو المعايير العلمية. لا يزال في أيدي رجال قدامى من عهد تشاوتشيسكو (ديكتاتور رومانيا الذي حكمها بين عامي 1974 و1989، قبل أن يُعدم بالرصاص على يد شعبه - المحرر)، أو على الأقل أولئك الذين صنعوا حياتهم المهنية بسرعة كبيرة بعد سقوط الشيوعية. لن تجعلهم يتصرفون بشكل مختلف أبداً. هؤلاء هم الأشخاص الذين قرروا أيضاً، بعد الكارثة التي وقعت في كولكتيف، أنه لن يتم نقل أي ضحايا للعلاج في الخارج. لأن الأموال يجب أن تُنفق هنا، حتى يسهل الاستيلاء عليها.

- من يعارض هذه الأساليب لا يخلو من الخطر كما تُظهر في الفيلم. الصحافيون مهددون والأطباء والممرضون كذلك. هل واجهت شيئاً كهذا بنفسك؟

لا. لكن كانت لدي مصادري الخاصة في المخابرات وعرفت أنه تم التنصُّت على هاتفي. وأدركت في وقت ما أننا كنا مُلاحقين. مع ذلك، لم أر ذلك تهديداً في حد ذاته، لكنني علمت أنهم يريدون ببساطة معرفة ما إذا كنت، لكوني قريباً من أكثر الصحافيين إرعاباً في البلاد، أمتلك معلومات بنفسي. على الأكثر، كنا خائفين من اقتحام الاستوديو الخاص بنا ومصادرة موادنا المصوّرة ومحركات الأقراص الثابتة. لهذا السبب كنا حريصين للغاية وحفظنا المواد كل مساء بطرق مختلفة وأخذناها أيضاً خارج البلاد.

- هناك بطل آخر في الفيلم هو وزير الصحة الشاب فلاد فويكوليسكو، الذي كان جزءاً من الحكومة المؤقتة التي تشكّلت بعد حريق كوليكتيف.

من حسن حظنا أن فلاد لم يكن سياسياً، مثل جميع أعضاء مجلس الوزراء الآخرين، تكنوقراط غير حزبي وجاء من خارج ملعب السياسة. شكَّل فريقاً شاباً، كلهم ​​أصدقاء من دول مختلفة وجميعهم خبراء في مجالات الإعلام أو الطب. بالنسبة له، كانت الشفافية واحدة من أهم المخاوف. لم ير سبباً وجيهاً لوزارة الصحة لإخفاء الأسرار عن الشعب، وكان يؤمن بحق كل مواطن في معرفة القرارات التي يتم اتخاذها هناك. كان شرطه الوحيد أن أحضر بمفردي. كان واضحاً لي أننا لن نصوّر أي شخص يدخل الوزارة دون أن يُطلب منه ذلك. لكن في المقابل، لم يكن لفلاد وفريقه مطلقاً الطلب مني إغلاق الكاميرا، حتى لا يفهم أحد أن بمقدورهم إخباري بما يمكنني وما لا يمكنني تصويره.

- ينتهي فيلمك بالانتخابات البرلمانية لعام 2016، والتي يعود فيها الاشتراكيون الديموقراطيون، الذين كانوا في السلطة قبل كارثة الحريق، إلى السلطة ويحلّون محل الحكومة المؤقتة. تبدو كخاتمة مريرة يائسة.

بالنسبة إلي، القصة التي أرويها في "كوليكتيف" هي قصة إيجابية للغاية. لا أريد أن أنكر أننا نعيش في مجتمعات شديدة الاستقطاب يسيطر عليها الشعبويون بشكل متزايد. لكننا نرى الأبطال الملتزمين في الفيلم. ونرى كيف يمكن لشخص واحد فقط، مثل الطبيبة التي تعد أول المبلغين عن المخالفات، أن يحدث فرقاً.

- هل تغيَّر أي شيء منذ ذلك الحين؟

المجتمع المدني الروماني مختلف بالتأكيد اليوم. هناك أحزاب إصلاحية جديدة من الشباب. وللإثبات للسياسيين أنه من الممكن جداً بناء مستشفى جيد في وقت قصير، أُنشئ مستشفى على أعلى مستوى لمرضى السرطان في غضون عامين بمساعدة التبرعات الخاصة. حتى فرقة ميتاليكا الموسيقية ساهمت بربع مليون يورو. بطبيعة الحال، تستمر الطبقة السياسية في الكذب مثل جندي مُبرمَج.

- ما هو الوضع الحالي للصحافة في رومانيا؟ هل ما زال كاتالين تولونتان يقاتل بمفرده؟

لا، لقد تغيرت الأمور هناك أيضاً. هناك الآن منصات رائعة للصحفيين المستقلين الذين يقومون بالتحقيق بشكل هائل ويكشفون الكثير من الفساد. بالإضافة إلى ذلك، تم الآن شراء الصحيفة التي يعمل بها تولونتان من قبل شركة رينجييه السويسرية وأدمجت في أكبر صحيفة يومية في رومانيا، ليبرتاتيا Libertatea. في غضون ذلك، قام تولونتان بتشكيل عدة فرق تحقيق تعمل في مختلف المجالات. في الوقت الحالي، هؤلاء الصحفيون، في نظري، هم أقوى قوة معارضة، في حين أن المحطات التلفزيونية - بما في ذلك المحطات الخاصة - أُغلقت بتأثير الوباء. عموماً، لا يأتي أي انتقاد للحكومة من جانب تلك المحطات، ومن غير المرجح أن يكون أولئك الذين يشاهدون التلفزيون في رومانيا قد سمعوا ولو مرة واحدة أن فيلم "كوليكتيف" هو مُرشّح رومانيا لجائزة الأوسكار.

في المقابل، الكثير من الجيل الأصغير، بين 16 و30 عاماً، شاهدوا الفيلم. هذا الجيل محمّل بأسئلة وبحاجة لإجابات: "هل أبقى في رومانيا، أم أرحل بعيداً عنها؟". كذلك الصحافيون أخبرونا بعد عرض الفيلم عن تزايد عدد المبلغين عن الفساد. كان هناك فجوة واسعة من عدم الثقة بين الصحافية والرومانيين. خمسون عاماً من الديكتاتورية دمّرت الصحافة.

(*) ألكسندر ناناو (1979 - بوخارست، رومانيا) قدم إلى ألمانيا في سن العاشرة مع والديه اللذين ينتميان إلى الأقلية الألمانية في رومانيا. درس في أكاديمية السينما والتلفزيون الألمانية (DFFB) ببرلين. حازت أفلامه جوائز كبرى في المهرجانات السينمائية الدولية.