الكذبة الكبرى: كتّاب في المنفى

نزار آغري
السبت   2021/05/29
لوحة جيل مايير (Getty)
كاتب في المنفى، كاتب مغترب، كاتب مهاجر، كاتب مُبعَد، كاتب مُطارَد،.. هذه الألقاب، وأشباهها، تتردد كثيراً في أوساط كتّاب وشعراء عرب يعيشون خارج أوطانهم، في أوروبا تحديداً. وهم إذ يلوحون بهذه الألقاب، بمناسبة ومن دون مناسبة، فلأنهم يرونها ذات اعتبار ولها مكانة في القلوب والأذهان، ففي سيرة القادة والثوار والأدباء الكبار توجد تلك العلامة الفارقة في أنهم عاشوا في المنفى.

من المفترض أن يبعث الأمر على الأسى. فالنفي عذاب، والعيش في المنفى شقاء. المنفيون هم أولئك الذين تجبرهم حكومات بلدانهم على ترك موطن عيشهم ومكان سكنهم ومسقط رأسهم، والرحيل إلى بلاد بعيدة، قد تكون جزراً نائية.

النفي، إذن، عقوبة تنزلها الحكومات بحق معارضيها من السياسيين والكتّاب والشعراء والفنانين. مثلما حدث في عهد القيصرية الروسية، وما حصل في العهد الستاليني بحق المخالفين (ما جرى لليون تروتسكي الذي نُفي إلى المكسيك ثم اغتيل هناك)، وما حصل على يد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية وأنظمة القمع في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، وغيرها.
هل هذا هو حال الكتّاب العرب في "المنفى"؟

الشاعر العراقي سعدي يوسف، على سرير المرض في لندن، طرح مثل هذا السؤال، من حيث لا يدري، حين ناشد الحكومة العراقية مساعدته بتكاليف علاجه، وأرسل وزير الثقافة العراقي، حسن ناظم، طلباً لوزارة الخارجية لإرسال السفير العراقي في لندن لعيادة يوسف والإطمئنان على تلبية احتياجاته.

كان سعدي يوسف قد خرج من العراق في زمن صدام حسين، والتحق بالمنظمات الفلسطينية في لبنان، ثم رحل إلى أوروبا واستقر في لندن. وهو دأب على إعلان نفسه مناضلاً ضد الديكتاتورية ومدافعاً عن المظلومين والمقموعين، ملقباً نفسه بـ"الشيوعي الأخير". رحل صدام حسين، وبقي سعدي يوسف في لندن. تغيرت الأوضاع، تبدلت الأحوال، أصبحت هناك إمكانية للعودة إلى العراق والعيش في أي مدينة، أوبلدة، أو قرية، ومواصلة الكتابة و"النضال" من أجل الشيوعية هناك. لكن سعدي يوسف تشبث، ومازال يتشبث بالعيش في لندن، حتى الرمق الأخير.

على خطى سعدي يوسف فعل العشرات، وربما المئات، من الشعراء العراقيين والسوريين. معظم كتّاب المنفى هؤلاء، هل هم منفيون فعلاً، وهل يشبهون الكتّاب المنفيين في العالم، في مواقفهم وسلوكهم وكتاباتهم؟

لقد قرأنا عن الكتّاب والشعراء الذين واجهوا السلطات في بلادهم، وسُجنوا وعُذبوا بل وأُعدموا ونفي بعضهم، وحين استقرت الأوضاع في بلادهم بعض الشيء، عادوا. هؤلاء الكتّاب والشعراء حملوا قناعات وأفكاراً ومواقف، تمسكوا بها ودافعوا عنها، وتحملوا نتائج إخلاصهم لها. الكثيرون أصروا على البقاء في بلادهم وتحدي السلطات، رافضين الهروب، إذ لا معنى للقول أن الكاتب أو الشاعر يقف مع المظلومين ثم يهرب من البلاد تاركاً هؤلاء المظلومين "يناضلون" من أجل إطاحة ذلك النظام. وحال بعض الكتّاب والشعراء العرب (نتكلم عمّن يرفع الصوت دوماً بالحديث عن المنفى والتغني بالوطن)، حال من يضرب على النعل والسندان معاً.

بعض هؤلاء، لم يقم أحد بطردهم أو نفيهم أو إخراجهم من البلاد. هم نفوا أنفسهم بأنفسهم. خرجوا من البلاد لأنهم، مثل بقية مواطنيهم، يبحثون عن حياة أفضل. هذه أمنية كل فرد في تلك البلاد. لو فُتحت الحدود على مصراعيها لربما لن يبقى أحد على الإطلاق. إنهم، والحال هذ، منفيون طوعاً، ليس لأنهم أصحاب أفكار خطيرة أو مؤلفات متمردة أو مواقف ثورية معارضة، بل ببساطة لأنهم لا يريدون العيش حيث الفقر والبؤس والتخلف. المنفى في حال كهذه، ليس عقوبة، بل جائزة. نعمة. استبداد السلطة أمر محمود لأنه يوفر الطريق للوصول إلى الخارج.

وهم لا يخرجون إلى أي مكان بل يختارون أفضل البلدان التي توفر العيش الراقي. سعدي يوسف لم يلجأ إلى بلد شيوعي، بل قرر الذهاب إلى مركز الرأسمالية. أوروبا هي الجنة التي يتوق إليها الجميع: النجار والحداد والفران والطبال والنصاب والسارق والمجرم والمغتصب والعاطل عن العمل و... الكاتب والشاعر. كلهم يغادرون في قارب واحد. يمضون للوصول إلى الهدف نفسه. يغامرون بحياتهم للفوز بذلك. يصلون إلى هناك ويتدبرون أمور إقامتهم ثم يهبون، كل من جهته، لصنع البروفيل المجيد. يرسمون أنفسهم، وبعضهم بعضاً، في هيئة ثوار ومناضلين ومفكرين كانت الحكومة ترتجف من كتاباتهم وأفكارهم. يشرعون في التنقل، سائحين، وأيديهم تمسك بجواز السفر للبلد الذي "نُفوا" إليه رافعين أنوفهم شموخاً بالجنسية الجديدة التي حصلوا عليها. 


لم يذهب سعدي يوسف، "الشيوعي الأخير"، للإستقرار في كوبا أو فنزويلا، بل إلى بريطانيا لأنها توفر بيتاً وطبابة ومعاشاً يتيح له السهر في سوهو وكوينزبي وأوكسفورد ستريت والبيكاديلي.

سعدي يوسف هو الذي كتب قصيدة بعنوان "المنفيون":
"أجمل ما في المنفى
أنْ يُصبح المنفيّ سلطاناً
يُنَظم العملةَ
والسائحات ِ
ويُلْبس الثورةَ قفطاناً".

كأنه يكتب عن نفسه.

التذرع بالإستبداد هو بطاقة سفر مجانية إلى بلد أوروبي، ليس لفترة سريعة، بل للعيش فيه والتنعم بجنسيته. كان الشاعر يحلم بالوصول إلى هذا البلد، وإذا به يصبح مواطناً فيه.

قوانين اللجوء الأوروبية، تشجع هؤلاء على الهرب من بلادهم والذهاب إلى المنفى. المنظمات الفلسطينية كانت فنادق استراحة مؤقتة إلى أن يتدبروا أمورهم ويعثروا على طريق توصلهم إلى "المنفى" الأوروبي الرهيب. كانوا يلتحقون بالجبهة الشعبية أو الديموقراطية أو جبهة النضال أو الجبهة العربية، ويتم استكتابهم لملء صفحاتها، التي كان ينبغي أن تمتلئ، بأي كلام. إنشائيات يمكن أن تقال في أي صف إعدادي، في أي بلد عربي، عن الكفاح والكرامة والعزة…الخ. إلى أن تأتي الفرصة فيركبون السفينة المباركة.

بشطارة اللعب على الحبال، أقنعوا جهات ممولة بإصدار صحف ومجلات ترأسوا تحريرها أو عملوا فيها، وهذه الجهات ليست سوى أنظمة قمعية ديكتاتورية لا تقل قمعاً ودكتاتورية عن سلطة صدام حسين أو حافظ الأسد. بل إنهم لم يترددوا في العمل في صحف ومجلات تمولها حكومة صدام حسين نفسها.

بعض هؤلاء الكتّاب والشعراء ساهموا في تشويه وإفساد الفضاء الفكري والثقافي العربي، وأثخنوه بمقولات وسلوكيات ومواقف وشعارات كاذبة وجوفاء. أسسوا لثقافة ارتزاق ونفاق وشطارة، وتمجيد وتزييف وتسطيح، بعيداً من أي قناعة أو مبدأ أو موقف. هؤلاء شعراء وكتّاب يلجأون إلى بلد أوروبي، ويحصلون على جنسيته، ثم يعودون في زيارات موسمية إلى بلادهم. الجنسية الأوروبية مكسب. نعمة. رزق، له ولأولاده. إنه يذهب إلى "المنفى" برِجليه، كي يؤمن مستقبله ومستقبل أولاده، ثم يعود سائحاً إلى بلده. يجلس في لندن أو باريس أو أمستردام، ويملأ صفحات التواصل الإجتماعي بقصائد "تدمع لها العيون"، عن تربة القرية ونافذة البيت والعصافير التي تزقزق في سماء الوطن الغالي.

الشاعر الروسي ماياكوفسكي لم يتحمل ديكتاتورية السلطة البلشفية الجديدة، رغم أنه كان بلشفياً، فانتحر. ليس المطلوب من الشعراء العرب (والأكراد، بالطبع) أن ينتحروا. المطلوب هو الكف عن الإستعراضيات على الناس من حولهم وعلى أنفسهم.

حين يكذب المرء وينجح في تمرير الكذبة، فإنه لن يتردد في الكذب في أشياء أخرى. حين يكون الشاعر كاذباً في كلامه عن المنفى والقهر الذي يعيشه، وحنينه إلى الوطن والبيت (مع أنه يزور هذا البيت كلما راق له ذلك)، من السهل عليه أن يكذب حين يتحدث عن قضايا الشعوب والحرية وما شابه. الدموع التي تهرق على حال الشعوب والحريات، ليست سوى عُدّة الشغل: تلقي الدعوات للمشاركة في المهرجانات والولائم والنوم في فنادق فخمة هنا وهناك.

المثير للدهشة أن (معظم) هؤلاء لم يكتبوا أي شيء ذي قيمة حين كانوا داخل الوطن. في سوريا، مثلاً، (كثرٌ) كانوا يكتبون في صحف موالية للنظام ويناضلون للإنتساب إلى إتحاد الكتّاب العرب. كانوا منسجمين مع الوضع، فلما خرجوا تحولوا إلى كتّاب معارضين، تماماً مثل الضباط المنشقين الذين صاروا جماعة أبو عمشة. ثم.. ما قيمة الشيء الذي يكتبونه في الخارج؟ القيمة الوحيدة أنها إنشائيات ضد النظام بوتيرة شعاراتية سطحية، مع توابل من حنين مصطنع إلى التراب والعصافير والنافذة؟