مازن معروف..تعلمنا الدرس الفلسطيني

المدن - ثقافة
الأحد   2021/05/23
غزة قصف (Getty)
كل حرب تخوضها اسرائيل تكون اعترافاً ضمنياً منها بأنها لم تنتصر في الحرب السابقة. لأنك ببساطة حين تهزم خصماً لا تعود لقتاله بكل تلك الضغينة بعد فترة قصيرة. حجم خسارة الدولة العبرية في كل حرب، يتحدد بمقدار القوة العسكرية التي ستحشدها في الحرب اللاحقة، كما الكراهية التي ستدير بها المعركة. لكن هذه الحرب بالتحديد مختلفة عن سابقاتها، لأسباب أهمها أنها رمَّمَتْ شيئاً من أخطاء أوسلو. فالاتفاقية التي هلَّل لها العالم (1993)، تجاهلتْ فلسطينيي الشتات بشكل كامل تقريباً، كما لم تتطرق إلى المستوطنات (لم يكن ضمن الوفد الفلسطيني المفاوض شخص واحد خبير بشؤون المستوطنات فيما احضرت إسرائيل متخصصين من باحثين وعسكريين وأمنيين وأكاديميين وغيرهم). لكنها أيضاً كانت فصلاً جديداً من تجاهل الحركة الوطنية الفلسطينية لفلسطينيي الداخل من حساباتها الذي كان مستمراً منذ سبعينات القرن المنصرم.  

الإسرائيليون بدأوا بعرقلة السلام بُعَيد توقيعه. اغتالوا رَجُلَهم الذي وقع الإتفاقية (رابين) وأفردوا المجال لتولي اليمين المتطرف الحكم عام 1996. ليستتبع ذلك بقضم ممنهج للأراضي ومصادرتها والتوسع الإستيطاني والاستيلاء على الممتلكات والمنازل وشطر قرى نصفين وشق الطرقات الإلتفافية وبناء جدار الفصل فتصبح حياة الفلسطيني لا تطاق. وحين انسحبت إسرائيل من غزة عام 2005، بقيت تحاصر القطاع لتعطيل كل أشكال الحياة فيه. لكنها قامت في موازاة ذلك، بزيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية وبناء مزيد من المستوطنات لتُحَوِّل الضفة عملياً إلى سجنٍ عسكريٍ تشرف عليه المستوطنات، علماً أن المستوطنين الثمانية آلاف في غزة قبل الإنسحاب كانوا يتحكمون بـ 40% من الأراضي الصالحة للزراعة مقابل 1.4 مليون غزي يعيش 80% منهم فقراً مدقعاً. فيما تولى المجتمع الدولي ختم المهزلة (2006) بفرض عقوبات على شعب غزة في سابقة لا مثيل لها في التاريخ، كونها عقوبات فرِضت وقتها على شعب تحت الإحتلال بدلاً من فرضها على المحتل. أما الفلسطينيون فأملوا أن يقتنع المجتمع الدولي بأنك لا تستطيع بناء سلام مع مشكلتك. لكن إسرائيل اعتبرت ذلك إرهاباً دبلوماسياً.  

تجريم الفلسطيني منتصراً أم مذبوحاً، ثقافة كان الغرب، الخارج من الحرب العالمية الثانية وأهوال الهولوكوست أول من تبناها. لكن جيلاً جديداً ينشط اليوم بمزاج أكثر فردية، تزعجه جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان التي يطالعها فور حدوثها على شاشة هاتفه، والترويع الممنهج للمدنيين وسلبهم بيوتهم كما يحدث اليوم في القدس. جيل نضالات على مستويات إنسانية مختلفة، كالنسوية والكويرز وحقوق السود وغيرها. ينظر إلى القضية الفلسطينية، لا باعتبارها شيئاً معقداً كما اعتدنا أن نسمع، وإنما مسألة بسيطة للغاية: لا يمكن لدولة عدوانية أن تكون ضحية شعب تعتدي عليه. يكفي مثلاً أن ننظر إلى الدعم غير المسبوق لكل أولئك المشاهير للقضية الفلسطينية على مستوى العالم والتظاهرات في أوروبا وأميركا والنقاشات التي خاضها نشطاء من كل الجنسيات على وسائل التواصل الاجتماعي دفاعاً عن حقنا. كلما امعنت إسرائيل في جبروتها، تَحَوَّلَ الفلسطيني بوجوده وحسب في أي بقعة في العالم، إلى تذكير بالنكبة.  

هل كانت الحرب انتصاراً أم لا؟ شاهدنا مئات الأطفال يموتون، عائلات بأسرها تُعدم لا لشيء إلا لأنها منزوية خوفاً في منازلها، أحياء تُمسح، مبان تؤول كتل حجارة، وأناسٌ يبكون أبناءهم وبناتهم وأقاربهم وجيرانهم وأرزاقهم، بصمت بعيداً قدر الإمكان عن الكاميرا. أما من بقي حياً هو بلا شك منهكٌ نفسياً. هذه كلها خسائر. والمزيد سيتكشّف في الأيام القادمة. لكن لا إنصاف في الحروب. كما أن الحروب لا تقاس بمنطق رجال الأعمال في الربح والخسارة. ففي مقابل ذلك، كان ما شهدناه انتصاراً للوعي الفلسطيني في مدن وقرى وبلدات الداخل، انتصاراً ضد تعطيل الهوية الفلسطينية، لحركة تحرر وطني جديدة، لتوق الفلسطينيين للوحدة، وانتصاراً على مسعى اسرائيل لترسيخ فكرة ان الفلسطينيين مشكلة إنسانية. لكنه كان بشكل خاص انتصاراً لبراءة الأطفال الغزيين. تلك البراءة الحادة كالمشرط والتي محت للحظات الخراب من حولهم، وأوجعتنا بقدر ما جعلتنا نبتسم مربكين غير مصدقين، أن أولئك الصغار بعد كل ما عاشوه من رعب، هرعوا في أول فرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وإنهم يقولون لنا بطريقتهم، إن ما يهم هو الحياة حتى وإن كانت بحجم سمكة.  

هذا ما لن تفهمه آلة الجيش الإسرائيلية، أن الأزمات تصنع للأشياء الصغيرة والخافتة، التي قد لا نلتفت إليها في حياتنا اليومية كسلة القش، أو الورود الشمعية، أو الدمية المهملة، معنى إنساني عميق، بليغ وشخصي، يعيد تعريف علاقتنا بالمكان ويطلق جذورنا فيه من أول وجديد. لأننا كأي شعب آخر، عاديون في أحلامنا وتطلعاتنا. نريد أن لا نطرد من بيوتنا. أن لا يُقتَل أطفالنا أو تدمر مدارسنا ومستشفياتنا وشوارعنا، وتصادر أراضينا وممتلكاتنا أو يطلق علينا النار إن قلنا لا.

كل فلسطيني تلميذ في مدرسة القضية الفلسطينية. ويكفي أن يقوم طفل وطفلة بافراغ كل الجبروت الإسرائيلي من جدواه، حين يهرعان وسط الدمار للفرح بسمكة ناجية، كي نقول إننا تعلمنا درس اليوم.

(*) مدونة نشرها الكاتب الفلسطيني مازن معروف في صفحته الفايسبوكية