رسالة إلى طاغية...

أسعد قطّان
الأحد   2021/05/23
من أعمال تمام عزام
يا سيّدي الطاغية،
لقد صدّقتُ، ذات يوم، أبًا القاسم الشابيّ حين أراد للشعب أن يريد الحياة، وكذّبتُ عينيّ فيما أنا أمرّ بالأهرامات التي شيّدها قادة عسكرك من ألسنة الشعراء ورؤوس العلماء وعيون المنتفضين. ولكنّي أقرّ اليوم بأنّ قوافي الشاعر قد غرّرت بي واستعاراته خدعتني. وأنا مدين لك بروحي لأنّك قدتني إلى مندرجات الحكمة، وعلّمتني أبجديّة قراءة الشعر من جديد، لكي أدرك أنّه مجرّد كذبة بحجم شعب بأسره. ألم تقل العرب إنّ أعذب الشعر أكذبه؟

والحقّ الحقّ أنّي مدين لك أيضاً بكلّ ما أوتيت من قدرة على اكتناه أسرار الأدب من خارج الشعر. ففي مدرسة صحافيّيك، الذين يهتفون لك بطول العمر ليل نهار، ويدبّجون المقامات الطوال في مديح فضائلك، تعلّمت كيف تصبح الكلمات تحايلاً بالكتابة على الحقيقة. ثمّ أتى من يكشف لي أنّ عبقريّة الأدب تكمن في أن تبدو الأشياء التي نخترعها حقيقيّةً كحقيقة خيط النمل في مطبخنا حين يلتهم حبيبات السكّر. فأدركت أنّ الكلامولوجيا الفضفاضة التي سُطّرت في مديحك إنّما هي أدب رفيع يكاد يتخطّى تخييلات شاعرنا الكبير أبي الطيّب المتنبّي حين كانت اللغة تتحوّل بين أصابعه إلى تعويذة. 


بلى بلى. لا مناص من أن أبوح لك بأمر لم أسرّه لأحد بعد. فأنت سيّدي وحبيبي وقرّة عيني وكاتم أسراري. لطالما كنت أتمنّى الولوج إلى عوالم بيكاسو المسحورة، والقبض على مفاتيح الرسم في رسومه، والإمساك بناصية اللغة في لغته الفنّيّة التي لا تحيل إلاّ إلى ذاتها. ولكنّي لم أتعلّم فكّ طلاسم لوحاته إلاّ بفضل القواميس التي خطّها جهابذة قصرك. ففيها تفقّهت في احتمالات السورياليّة. وبفضلها أيقنت كيف يصبح الوضوح ضباباً والواقع تهويماً. ومنها غرفت أسرار التكعيبيّة على أنواعها، ولا سيّما تلك التي سبقت الحرب العالميّة الأولى، إذ اتّضح لي بأمّ العين وعين القلب كيف تصبح الرؤوس المدوّرة مسطّحةً مثل أسطح الأبنية في حارتنا. وفهمت كيف تتحوّل خلايا الدماغ الطيّعة إلى أشكال هندسيّة مضلّعة تشبه مكعّبات الملح في مطبخنا. لذا، هاءنذا أعلن اليوم بالفم الملآن والقلب الخافق أنّي لولاك لبقيت أمّيّاً في منعطفات الجمال، تائهاً في متاهة الفنّ لا رشد لي ولا قرار.

يا سيّدي الطاغية، لقد منحتني الحكمة التي لا تقدّر بثمن. فأنا اليوم، وبعدما طوّعتَ جموحي بالأدب وهذّبتَ حماقتي بالفنّ، صرت كالخاتم في إصبعك، مستعدّاً لبذل الغالي والنفيس من أجلك، إذ لا قضيّة لي إلاّك ولا ملجأ لي سوى جبينك العريض. ولكنّي بسبب الجوائح والضوائق الاقتصاديّة التي تعصف ببلدنا عدت لا أملك سوى قلم رقاص واحد أبريه كلّ يوم، بعد غياب الشمس، كي أكتب نصّاً عن مفاتنك. فإذا شئتَ أن أحوّله إلى سيف، فمرحى برغباتك التي هي عندي بمنزلة أوامر. سأصقل قلمي سيفاً، وأشدّ رصاصته المروّسة نصلاً أغرزه في عنقي، وأذبح نفسي إذا كانت هذه مشيئتك. فإذا تنازلت إلى حقارتي، وأكرمتني بنظرة عطف، وشاهدت، لا سمح الله، أنّه لم تخرج من حبل وريدي قطرة دم واحدة، فاعلم أنّ الدم في عروقي قد تحوّل إلى حبر كلمات لا تهتمّ إلاّ بسرد مآثرك. وهل من قيمة للحبر إذا لم يتحوّل إلى جفاف في سبيلك؟