مئوية ثروت عكاشة.. عن ماضٍ لا يداوي الحاضر

شريف الشافعي
الجمعة   2021/05/14
وزير الثقافة ونائب رئيس الوزراء المصري سابقًا وأحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار
ليس من شك في أهمية الاحتفاء برموز الثقافة والفكر والنقد والإعلام، بل والإداريين البارزين الناجحين أيضًا، من الراحلين والأحياء على السواء، وإلقاء الضوء على تجاربهم بعمق وتوسّع، وإعادة تقييمها من جديد بعيون كاشفة مسلّحة بالتراكم الزمني، واستبصار ما في مشروعاتهم ومنجزاتهم من تفاصيل، وإيجابيات وسلبيات، على أن يكون ذلك التوجّه بهدف واضح، هو الضخّ في مسار النهر الجاري إلى الأمام. فقراءة الأمس؛ على أهميتها، ليست سوى بوصلة إضافية هادية في دروب اليوم المتشابكة، ومتاهات الغد الموحشة.

لم تمْضِ في هذا المسلك العقلاني، المتزن الهادئ، الكرنفالات الرسمية الدائرة بمصر على مدار العام الحالي 2021 بمناسبة مئوية ميلاد الناقد والمفكر والمترجم ثروت عكاشة (1921-2012)، وزير الثقافة ونائب رئيس الوزراء المصري سابقًا وأحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، بقدر ما انطلقت هذه الكرنفالات بجناحيها الكبيرين؛ الثقافي والإعلامي، في فضاء الشعارية والصخب والاجترار، والادعاء اليقيني بأن "المشروع المتكامل" الذي بلوره عكاشة ثقافيًّا وإداريًّا ومؤسسيًّا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي يدفعنا نحو محاولة استعادته كما هو. بل إن المرحلة الناصرية، مثلما تَرَدّد، مُحَصّنة بصلاحية مطلقة في كل زمان، بكافة تمثلاتها وأذرعها السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها، وبما امتلكته من آليات القوى الناعمة، الموجهة إلى الداخل، والممتدة إلى الخارج.

يبدو بديهيًّا أنه لا مجال إلى إعادة إنتاج نموذج الخمسينات والستينات في الشأن الثقافي، واتخاذ سياسات عكاشة ومخططاته ووزارته كعناوين للمرحلة الراهنة التي تعيشها مصر، فلا الزمان هو الزمان، ولا مقدّرات مصر على الأصعدة المحلية والعربية والإقليمية والدولية هي مقدراتها في العهد الناصري، ولا القبضة المركزية هي المهيمنة فعليًّا على الأرض بأدواتها الإقناعية الناجزة القوية (حتى وإن لم تكن صادقة)، ولا لغة الخطاب في أي مستوى من المستويات (حتى المستوى الديني) تسمح بالتعامل الفوقي والتلقين، وبالإعلام الأحادي التوجيهي، وبأن يقترن اسم وزارة الثقافة بالإرشاد القومي، مثلما حدث في ولاية ثروت عكاشة الأولى للوزارة العام 1958.

تغلّفت الاحتفاليات كعادتها بالعناوين الحماسيّة الطنّانة، من قبيل "ثروت عكاشة.. فارس الثقافة المصرية"، وانبنت على "المَكْلَمَات" البيانية، المليئة بالمجّاني والمستعاد وما هو معروف بالضرورة حول منجزات عكاشة الفكرية والنقدية والفنية، وفي مجال الترجمة والتشكيل والآثار، وفي الإدارة والتخطيط وتعميق الثقافة الجماهيرية، وما إلى ذلك.

كما أخذت الاحتفاليات على عاتقها من جهة أخرى إثارة ما هو ترويجي دعائي، لتسويق الصيحات التي تكررت كثيرًا في الآونة الأخيرة، في الثقافة وسائر الميادين، مثل: العمل بالروح الناصرية، عودة أضواء الستينات، طلعت حرب راجع، استعادة أمجاد ماسبيرو، وغيرها من الفرقعات الجوفاء التي تُواري إفلاس الحاضر، والتي لن يكون آخرها بطبيعة الحال الاستدعاء الفج لنموذج عكاشة، كمثال يُبنى عليه الواقع الثقافي، وذلك بعد تردّي المنظومة الثقافية وانهيارها واهترائها في السنوات الأخيرة، وغياب الأفق الابتكاري القادر على استشراف مقوّمات عصرية جديدة للبناء خارج قاموس الماضي أو ذلك الفردوس المفقود.

ومثلما تقضي قوانين التاريخ، بأن المراحل الزمنية لا تتكرر، فإن نواميس الحياة تجزم بأن الأفكار والسياسات والممارسات ليس ممكنًا حفظها مجمّدة واستدعاؤها من جديد، في ظل تغير الظروف المحيطة، المحلية والعربية والدولية، بتراكيبها ومفرداتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية والإعلامية والمعلوماتية وغيرها.

وإن أخطر ما يجري تمريره بالتدليس والتلفيق، ويصرّ الكثيرون على ذلك، سواء في ما يتعلق بعكاشة ووزارة الثقافة والتجربة الناصرية برمّتها، هو ليس فقط التوقف عند نقاط عامة وخطوط عريضة يعتبرونها إشارات مضيئة وسماوات عليا لا يمكن تجاوزها، وإنما ذلك الانزلاق الكامل نحو إعادة تدوير الماضويّ المنفرط من بين الأصابع باعتباره دواء للحاضر العليل، وترياقًا للمستقبل المشكوك في ولادته، على نحو استسهالي هشّ، يهدر البُعد الزمني والتطوّر الإنساني والمعرفي وسائر أوّليات المنطق.

كذلك، فإن اجتزاء أية تفصيلة من مشروع عكاشة/وزارة الثقافة لإدراجها في دولاب الواقع الحالي أمر بالغ الغرابة، فلا مجال لعمل ترس بمفرده في وسيط مختلف تمامًا، ومن دون بقية لوازم التشغيل وعناصر التكامل والتجانس. ولعل بعض العروض المسرحية الرسمية الراهنة، التعليمية التلقينية، المباشرة التوجيهية، على سبيل المثال، قد وجدت لنفسها مكانًا تحت مظلة مبادرة "مسرح المواجهة"، بسبب هذا الفهم الخاطئ لإمكانية المقاومة العصرية بأسلحة قديمة، ومخاطبة جمهور عام 2021 المطلع على أحدث العروض العالمية بمبادئ الوصاية والإصلاح والتهذيب المدرسية، والخلط بين التنوير والاستخفاف بالعقول.



في ولاية ثروت عكاشة الأولى العام 1958، اقترنت وزارة الثقافة بالإرشاد القومي، إثر رؤية مركزية شاملة رآها صنّاعها آنذاك ملائمة لمنظومة إعادة هيكلة كل ما يجري على الأرض وفي عقول البشر، بما في ذلك الثقافة بوجهها الجماهيري التعبوي. وحتى بعد تولي عكاشة حقيبة "الثقافة" من جديد العام 1966، وبالرغم من فصلها في هذه المرة عن الإرشاد القومي، فإن ما يناط بالثقافة كوزارة ظل على عهده، بالاتساق مع سائر المعطيات التخطيطية والتنفيذية في مفاصل الدولة، فالكل يعمل في إطار فلسفة الدولة وتوجهاتها ومشروعاتها الكبرى ومعاركها في الجبهات المختلفة، والإبداع الفردي منصهر في خدمة المجموع، والطرح الذاتي مرهون بدفع القاطرة المتحركة في اتجاه واحد على طول الخط.

كون الثقافة مقترنة بالهيمنة المؤسسية وبالتبعية السياسية، وجد مبرراته أو أغطيته التكييفية في ذلك الوقت، الذي كان يتعاطى النظام فيه أنساق الشمولية والحشد والبناء وإضاءة المصابيح في الأرجاء النائية المظلمة، كما وجد آليات تمريره بمرونة واستساغة نسبية من القاعدة الشعبية الواسعة، المتعطشة لأي بصيص أمل بعد موات، وجاء ذلك التوجه في مناخ مغلق، وبحماية إعلام هو الأعلى صوتًا في المنطقة. ومن ثمّ، فقد تماسّت الثقافة القوية المدعومة مع النسيج المجتمعي فعليًّا (بالمشاركة الملموسة وليس بالصورية والادّعاء كما يتردد حاليًا عن دور الثقافة في خدمة المجتمع والنهوض به).

هكذا، برعاية ثروت عكاشة؛ المثقف والإداري، رسمت وزارة الثقافة ملامحها الأساسية وتفاصيل مرتكزاتها، بالاستناد إلى أن السياسة الثقافية لا تؤتي ثمارها ما لم يشارك الجميع من مثقفين وأجهزة ثقافية في تأكيد الانتماء للوطن، وفي دفع عجلة التنمية الشاملة، على اعتبار أن أية خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تظل قاعدتها هشة، ما لم تستند إلى تنمية ثقافية جذرية.

في هذا السياق المحوري، تبلورت مفاهيم متنوعة وتشعبت تفريعات متشابكة، لتضطلع وزارة الثقافة في جدول أعمالها بمهامّ من قبيل إكساب الشخصية المصرية تعريفًا بتاريخها، وصيانة مقدرات الوطن من تراثه، ورعاية مكتسباته الإبداعية الناتجة عن عطاء أفراده، والعناية بالثراء الثقافي الذي تحظى به مصر بين بلدان العالم، وتعزيز الدور المصري القيادي الذي استقته البلاد من مصادر عدة، منها التاريخ والجغرافيا والبشر، وإفساح المجال للشباب كجنود مقاتلين في الميدان الثقافي، ومراعاة سبل التجديد والابتكار والتمرد في الفنون والآداب (على مستوى المذاهب والتيارات الجمالية، وليس على مستوى الإيديولوجيات والانتماءات الفكرية والسياسية المغايرة)، ودعم اللامركزية لضمان وصول المنتج الثقافي المقصود إلى الأقاليم خارج العاصمة، والتفاعل مع ثقافات العالم من خلال تبادل النشاط والمشاركة في الفعاليات الدولية والانفتاح الثقافي على العالم.

المثير حد الدهشة، والمدهش حد الإثارة، أن هذه الخلطة من فرط ما جرى اعتمادها بعمق وبمقدرات فنية ومادية من العيار الثقيل، قد تمكنت من شدة تأثيرها من تحقيق الإقناع النسبي اللازم والقبول الكافي لدى قطاعات كبيرة من المجتمع، بما فيها نسبة عالية من قطاع المثقفين ذاته، حيث جرى ترديد مقولات الوزارة باعتبارها حقائق لا تقبل المراجعة، وبدت هناك مصداقية في الشارع لكل ما ينجم عن المؤسسة الموثوق بها، حتى لو كان الحديث عن "ديموقراطية الثقافة"، بوصفها من المكاسب الرئيسية للثقافة، تحت مظلة الوزارة، التي كانت أبعد ما يكون عن تلك الديموقراطية!

ومع تراجع المنتج الثقافي المؤسسي من الناحية الفنية المجردة، شيئًا فشيئًا في الربع الأخير من القرن الماضي، وبدايات القرن الحالي، وتضاؤل الإنفاق الحكومي على قطاعات الثقافة، وإسناد المهام الإدارية إلى الموظفين وليس إلى المتخصصين، إلى جانب تكلس الأداء وانحصاره في قوالب نمطية قديمة خارج العصر، وشيوع الفساد وغلبة الروتين، بدأ المثقفون والمبدعون الجادون ينحازون إلى الاستقلالية، وظهرت تيارات الهامش والإبداع الموازي، وفعاليات الكيانات الأهلية والخاصة، فيما راحت مؤسسة الثقافة الرسمية تكتسب سمعة غير طيبة، واعتبرها الكثيرون حظيرة للتدجين والولاء والطاعة، والتخديم على السلطة فقط، من دون خدمة الشعب، وهو الانحدار الذي أعلنت مؤسسة الثقافة مرارًا أنها تحاول تجاوزه ومحو ذكراه السيئة خلال الفترة الأخيرة، بدون أن تفعل شيئًا يؤكد ذلك أو يمشي حتى في الاتجاه المضاد خطوات قليلة.

والمراد في هذا المقام الضيّق، ليس تقديم وصفة سحرية ابتعاثية لإعادة الثقة والمصداقية في الثقافة كوزارة منتهية إكلينيكيًّا، ولا تقييم السياسات الرسمية الراهنة البائسة في هذا الصدد، وإنما التأكيد على أمر محدد، في حضرة ثروت عكاشة: المشروع والوزارة والمؤسسة، هو أن محاولات البناء الجديد في الحقل الثقافي لا يجب أن تنهض أبدًا على استنساخ مرحلة سابقة، لها ما لها، وعليها ما عليها، فمثل هذا الطرح العجائبي الوهمي محكوم عليه بالفشل، وكم من مبادرات ومشروعات قديمة ناجحة جرى استرجاعها حرفيًّا مؤخرًا على الأرض، باتت أضحوكة ومادة للسخرية والتندر، كونها استدعيت من بيئة مغايرة تمامًا.

ليس هناك من معنى لإفراط القوة الناعمة في الاحتفاء بماضيها وتمجيده بهذه الصورة، سوى الرغبة في مداراة إخفاقاتها المتتالية، وتهافُت دورها وتأثيرها في المعارك الحقيقية، مثل التنوير والمواطنة وتجديد الخطاب الديني ومواجهة العنف الفكري والسلوكي وتيارات الظلام وجماعات الإرهاب وغيرها. وتتحقق تلك الرغبة المهووسة حدّ المرض بالاستثمار الانتهازي لمثل تلك المئويات والاحتفاليات واستخدامها كورقة توت فوق عورات يصعب التستر عليها، للإيهام بأن "الزمن الجميل" عائد، بدون توضيح الكيفية المقنعة، بل إنه ورد نصًّا على لسان أحد قيادات الثقافة في احتفاليات مماثلة أن خطة النهوض بالثقافة وسياساتها تقوم ببساطة على العمل بروح عبد الناصر، وكرر آخر أن الناصرية فكرة لن تنضب أبدًا، إذ تلهم الأجيال المتعاقبة في شتى مناحي الحياة!

إن مثل هذه الرهانات الواهية، التي يجري إطلاقها بين الوقت والآخر، في ظل العجز الثقافي المقيم، لا تعدو أن تكون دغدغة للنوستاليجا والتحدث عما كان بوصفه لا يزال ثابتًا أو ممتدًّا بأطيافه الخضراء إلى يومنا هذا، على سبيل التعمية أو الغش. وهذا التضليل أقصى غاياته فقاعات كلامية تتبدد، فلا سبيل لاستعادة تفوق القوة الناعمة في ظل التحجّر والبلادة، في عالم تحكمه المنافسة، وتتصاعد فيه قوى أخرى تأخذ بأسباب التقدم والإنجاز الحقيقية، خارج دوامات الفراغ والبلاغيات الزائفة.

إن درس ثروت عكاشة؛ المثقف والوزارة والمشروع والمرحلة، هو باختصار التعامل الواعي مع اللحظة بما يليق بمقتضياتها وأبجدياتها. فإذا كان المقصود تثقيف الطفل، على سبيل المثال، فلا يكون ذلك أبدًا في الوقت الحالي بحواديت ما قبل النوم في مسرح العرائس المتهالك، وإعادة عرض مسرحية "صحصح لما ينجح" لصلاح جاهين ومحمد فوزي وصلاح السقا بتكنيك منقرض وأسلوب تعليمي فقير مثير للشفقة، مثلما جرى مؤخرًا. وهكذا الحال في بقية المجالات والإدارات الثقافية، التي تلجأ كثيرًا إلى الماضي كحل مريح، وتكون النتيجة خطوات بعيدة إلى الوراء، نحو المزيد من التأخر وافتقاد البوصلة وضياع الهدف بالضرورة.