عن أدب يحمي من موضوعه

روجيه عوطة
الأربعاء   2021/04/07
خوان ميرو
من وقت إلى آخر، تعود المعزوفة نفسها التي تعرّف الأدب، لا سيما السردي منه، كسبيل إلى جعل اللامرئيين مرئيين. إذ إن الأدب هو الذي يأخذ على عاتقه الا يبقي هؤلاء، بما هم  المهمشون من سكان المناطق النائية، أو من المقيمن في الطبقات غير الميسورة، أو من المنتمين الى هويات جنسية مختلفة الخ. الا يبقيهم من دون مرئية، بل يمدهم بها على أساس أن ذلك هو أمر ضروري للتخلص من وضع قهرهم أو قمعهم. وهذا، لسبب بعينه، وهو أن الأدب، وبمدهم بالمرئية، هو يمدهم بالقدرة على الكلام. فيعمد الأديب إلى تأليف رواية عن أسرة من الطبقة الشعبية في قرية ما مثلاً، وبهذا، يجعلها مرئية، وبهذا، يعبر عن ظروفها، تماماً، كما لو أنها تتكلم عبره.


فعلياً، التوقف القليل على هذه المعزوفة يساوي بدايةً الاشارة إلى أن الأدب، مثلما تريد إنتاجه، هو شبيه بوسيلة اعلامية من ناحية دوره. إذ إنه قريب من التلفزيون، الذي تذهب كاميرا مراسله إلى تلك القرية، وتصور ريبورتاج عن الاسرة فيها، فتنقلهم في تقرير عنهم إلى المتفرجين. بالطبع، الفرق موجود بين الريبورتاج والرواية من الناحيتين التقنية والجمالية، ولكن، الغاية منهما هي ذاتها، التي لا شك في كون مفعولها فيهما حاسم. وفي السياق نفسه، لا يبدو أن الأدب يتماهى مع الوسيلة الاعلامية فحسب، لكنه، أيضاً، يحاول ان يأخذ محلها، بما هي ليست التلفزيون هذه المرة، إنما غيرها، من قبيل الفايسبوك. فيتيح الادب لتلك الأسرة ان تحقق الغاية اياها من دون أن تستند إليها . بعبارة أخرى، لا حاجة لها إلى الأدب من أجل أن تقدم على قول عندياتها، ففي وسع افرادها فعل ذلك عبر ذلك الوسيط أو سواه. في النتيجة، الأدب يبرز كأنه يتصورها لا تدرك كيفية استخدام ذلك الوسيط، أو بالأحرى يصير له دور حيالها بفعل عدم ادراكها المفترض هذا.


على أن وظيفة الأدب، وحين تكون إعلامية، فهي تتعلق بصلته مع جمهور قرائه. هذه الصلة مفادها ان هذا الجمهور لا يعلم بأوضاع تلك الأسرة في القرية سوى عبر الرواية، بحيث أنه، ومن دون هذه الرواية، لا يلاحظ ظروفها البتة. على هذا النحو، طالما لا وجود لرواية عنها، طالما انها ليست موضوعاً للأدب، فهي، وبظروفها، لا يمكن أن تكون "قضية عامة". لا بد أن تغدو هذا الموضوع لكي تكون هذه "القضية"، اما، وفي حال لم تفعل ذلك، فلا تصير محط انتباه. ربما، مرد ذلك أن الأدب يسمح لجمهور قرائه الاطلاع على ظروفها بطريقة مؤطرة، اي انه لا يتلقاها كما هي في واقعها، إنما مُجَمَّلةً، ومضبوطةً. بالتالي، الأدب هنا هو الذي يضع جمهور القراء على اتصال بتلك الظروف بطريقة تحميه من وقعها، من وطأتها، أي أنه، وبشكل من الاشكال، يحميه منها. فهو لا يريد أن يخبرهم عنها سوى لكي يردها عنهم، اي يريد أن يتركها بعيدة عنهم من خلال تقديمها لهم على أساس تشكيله لها. بهذا، الأدب ليس فقط يتيح لجمهور قرائه الا ينتبه إلى تلك الظروف لأنها ليست في رواية بعد، بل، وايضا، يتيح له، وحين يتطلع عليها، أن يتأثر بها على منوال تأثره بأي موضوع منه، أي أن تأثره ينتهي مع انتهاء القراءة، أو مع البدء بقراته لرواية أخرى. إذ انه، وباختصار شديد، تأثر تحت السيطرة، اي أنه ليس بتأثر فعلي.


ولكن، الأدب، وبتحديد وظيفته بحسب المعزوفة نفسها، هو يحدد وظيفة أديبه، الذي، وعدا عن كونه شبيهاً بالمراسل، فهو فعلياً يعين للأسرة إياها أن كلامها يستلزم مروره من خلاله، أو يتقدم منها انطلاقاً من أنه هو الذي يعرف كيف يتيح لها ذلك الكلام. وهذا، في وقت أنها، وفي حسبانه، لا تستطيعه. على هذا النحو، يبدو أنه يحدد لها أسلوب كلامها، وبالتوازي مع ذلك، يأخذ مكانها جاعلاً إياها موضوعه. في النتيجة، الأديب هو الذي يحول ظروفها الى ظروف ملائمة له ولجمهور قرائه، فهو، وبشكل من الأشكال، ينهب الظروف هذه منها من دون أن يؤدي أدبه الى مشاركتها انصرافها منها.