بيت من كرتون؟ عن الدين وعلاقته بالتاريخ

أسعد قطّان
الأحد   2021/04/18
نقش أسطورة الخلق في معبد نمرود في العراق
 
ذات يوم، كتب المفكّر واللاهوتيّ الألمانيّ جرهارد إيبيلينغ أنّ علينا أن نأخذ التاريخ بجدّيّة لئلاّ يخرج التاريخ من التاريخ وينتقم منّا. لعلّ إيبيلينغ كان يومئ، في كلامه هذا، إلى ضرورة أن تتعاطى الجماعات نقديًاً مع موروثها التاريخيّ، أي أن تمحّص خبراتها التاريخيّة بحثاً عمّا ارتكبته من أخطاء وسعياً إلى الاعتراف بها، وذلك كي تستخلص العبر وتتجنّب الوقوع ثانيةً في الأخطاء ذاتها حاضراً ومستقبلاً. دراسة التاريخ، إذاً، ليست ترفاً فكريّاً، بل ترتبط عضويّاً بتشكيل الحاضر واستشراف المستقبل. فالبشر يصنعهم التاريخ، وهم كثيراً ما يكونون جرحاه، كما ذهب إليه المطران جورج خضر. والجروح لا تندمل عبر تجاهلها والتغاضي عنها، بل عبر مداواتها وتضميدها. وتضميد الجروح التاريخيّة لا يستقيم من دون التحليل والمساءلة والمحاسبة. التاريخ ينتقم منّا، على تعبير إيبيلينغ، عندما نكبت جروح التاريخ عوضاً من مواجهتها.

ثمّة، إذاً، مفارقة قوامها أنّ كتابة التاريخ ليست مسألةً «تاريخيّة»، بل هي قضيّة تلتصق عضويّاً بالحاضر. فلئن كان التاريخ يتألّف من أحداث ماضية، إلاّ أنّ توليف هذه الأحداث وتقديمها عمليّة تتحكّم فيها منطلقات الحاضر إلى حدّ بعيد. وهذه المنطلقات لا تملي فقط اختيار الأحداث التاريخيّة، أي ما نتحدّث عنه وما نتكتّم عليه، بل تؤثّر أيضاً في عمليّة تسليط الضوء، أي في القيمة التي نسبغها على الأحداث التاريخيّة. لا يسع المؤرّخين الفرنسيّين والألمان، مثلاً، أن يهمّشوا تاريخ الحروب بين الشعبين. ولكنّهم يستطيعون أيضاً أن يسلّطوا الضوء على التلاقي الفكريّ المترامي بين الثقافتين، ما يمكن أن يشكّل بذور صداقة بين الشعبين إذا هما قرّرا أن يتخطّيا جروح الماضي بغية تأسيس حاضر ومستقبل أكثر إنسانيّة. هذا لا يستتبع بالضرورة التعتيم على الاختلافات أو التقليل من شأنها. السؤال هو كيف نقرأ اختلافات الماضي من منظور الحاضر. هل هي اختلافات يجري تفسيرها إقصائيّاً بحيث تؤدّي إلى إلغاء الآخر، أم هي اختلافات تندرج في سياق أوسع يسوسه الاقتناع بأنّ التنوّع في ذاته قيمة إيجابيّة؟


لقد كان العلاّمة السيّد هاني فحص، رحمه الله، يردّد أنّ الأديان ليست منزّهةً عن الشرط التاريخيّ، ولا عن جريان التاريخ ولعبة التأويل التاريخيّ. لذا، هي مطالبة بدورها بأن تراجع الأنماط التي تقرأ بواسطتها اختلافاتها وتحدّد تقييمها لدلالة هذه الاختلافات من منظور الحاضر. ومن ثمّ، الأديان لا يمكنها الاستغناء عن عمل المؤرّخ. والمنصوح به أن يكون هناك بين أهل الدين مؤرّخون حاذقون. طبعاً، هذا ليس بالأمر البديهيّ. فالتاريخ كان أسرع العلوم الإنسانيّة إلى تحدّي المنظومة الفكريّة الدينيّة. أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو المكتشفات الأثريّة في مصر وبلاد الرافدين، التي خلخلت الاعتقاد السائد بأنّ السرديّة التوراتيّة (وتلك القرآنيّة المتّصلة بها) في ما يختصّ بالخلق وبعض قصص الأنبياء تتمتّع بصدقيّة «تاريخيّة» نابعة من قدمها. والحقّ أنّ التاريخ يشكّل، إلى اليوم، إحدى أبرز الأدوات المعرفيّة والمنهجيّة التي تسائل الدين لا في عماراته العقائديّة فحسب، بل خصوصاً في ما نعثر عليه في التراثات المكتوبة من توليفات يطغى عليها طابع المصالح السياسيّة والإثنيّة والجندريّة، ولكنّها سرعان ما تتهاوى أمام صرامة النقد التاريخيّ. وكلّما جنح غلاة أهل الدين إلى قراءة المعطيات التاريخيّة انطلاقاُ من إيديولوجيا تفرض المعنى عوضاً من استجلائه نقديّاً، كان لهم بعض المؤرّخين في المرصاد بغية حماية المادّة التاريخيّة من الإسقاطات الإيديولوجيّة.


ليس من النادر أن يذهب بعض المتديّنين في بلادنا اليوم إلى أسطرة أجزاء من الماضي، فيتحوّل التاريخ إلى سرديّة كبيرة تشبه الملاحم، وتحيل إلى كلّ شيء وأيّ شيء ما خلا الموضوعيّة التاريخيّة. ولعلّ بعضهم يقوم بهذا من جرّاء شعوره بخفوت في حاضره، ما يدفعه إلى البحث عن ملاذ له في التاريخ، أو في بعض أجزائه، على حساب الأجزاء الأخرى أو الصورة العموميّة. فكلّما خفت الحاضر وصار ضحلاً، توسّعت رقعة التاريخ وتحوّلت إلى خطاب إيديولوجيّ. إنّ جزءاً كبيراً من عمل المؤرّخين الجدّيّين يقوم في تنبيه الجماعات الدينيّة إلى ضرورة الاعتصام بالتوازن في قراءة التاريخ. من دون هذا التوازن القائم على مقاربات علميّة دقيقة، وعلى منهجيّات صارمة ولكن طيّعة من حيث قدرتها على مراجعة نتائجها، يتربّص بالدين خطر تحوّله إلى أسطورة وإلى بيت هشّ أساساته مائيّة وجدرانه من كرتون.