فوزي ذبيان... رينيه ما زالت هناك تتأبط شجرة أخيرة

المدن - ثقافة
الخميس   2021/04/15
رينيه ديك في مسرحية "الخادمتان" (تصوير جلبير الحاج)
"رينيه" قصة قصيرة كتبها فوزي ذبيان في 9 آب 2020 ضمن مجموعة بعنوان "شارع في عدة اتجاهات" ينشرها الآن وقد استسلمت رينيه(ديك) لدفنها الأخير:
 
" ... ولكن، من يعرف مصير رفاته، او كم من المرات سوف يُدفن؟ / توماس براون 
أكل الوحش دروب المدينة. أكل أثداء النساء وسوّى تضاريسهن بالأرض.
ثمة مشهد مسرحي يفرّ من خلف الستارة. ثمة فتاة جميلة جداً تقضم أظافرها ذعراً وأنا أشاهد مستسلماً. كنت آنذاك في الثمانين من العمر ورينيه بعد في أوائل العشرينات.
مدينة تلهج بصمت القبور ومشهد مسرحي يعدو، ينظر الى الخلف ويعدو... يسقط في حفرة كبيرة. 
رينيه ما زالت هناك تتأبط شجرة أخيرة كي لا تطير.
لقد هبّت عاصفة هائجة، أنياب حادة لهواء مذعور، أظافر مسننة لنسمة غادرة.
سقطت الفتاة بإداء يتسلل من بين الأصابع. 
دنوت منها بعجز الجسد وشماتة هشاشته. كانت تحاول الوقوف. حاولت رفعها والفرار، فشلتُ. كانت تأتي عبر يديها بحركات مسرحية، كانت كأنها تحفر نفقاً في الهواء أو غار كي تستظله. 
تفرست في زوغ نظراتها وفي ذلك المشهد الأخير. لم تسعفني سنواتي الكثيرة للقط الكلمات كي أصفُها. بدتْ... لست أدري!
بدت كتلة من الحاضر الدائم، من الآن الكلي النبض. 
بادلتْ نظرتي المحتشدة بالخراب ابتسامة من لا يقرأ للآتي بياناً. 
خجلت منها أنا المستوفي شروط تراكم السنين عبر تجاعيد وجهي وانحناءة ظهري وعصا أتكأ عليها بإحتضار. 
... نعم، خجلت منها. 
رسمتْ فوق شفتيها الرقيقتين ابتسامة من لم يدمن على المستقبل يوماً. أيام رينيه التي مضتْ وتلك التي لم تأت بعد. كلها هنا في هذه اللحظة. 

ثقبتْ الهواء بواحد من أناملها الراجفة فباغتني صوتها بأغنية أجنبية: أولئك العجائز لا يموتون، بل يغرقون في النوم في يوم من الايام لوقت طويل(*).
كانت بعد متشبثة بذلك المشهد المتفسخ المحروق المتشظي المركّز، والهواء يراقص خصلات شعرها. 
كم أحب هذه الفتاة. هي في الثمانين من العمر وأنا في بداية العشرين. 
سقط المشهد من يدها أخيراً وتناثر دون أن يلمحه أحد. 
كنت في الويمبي كافيه أحتسي القهوة كعادتي وحيداً. مرّت من أمامي كظل يجتاز تجاويف المدينة بحذر. مرّتْ بسرعة، بنأمة رمش بعفو خاطر لم يكن في بال أحد. 
أحب هذه الفتاة الثمانينية. أحبّ كيف تسير إلى لا أين، كيف ترنو إلى لا أين، كيف تنتظر لا أحد وكيف تتوقع لا شيء. تابعتها بناظري، لاحقتها حتى آخر حدود العين. 
أخذتْ المفرق ناح اليمين قرب المودكا كافيه وصارت تتوارى بالتدريج. 
زلطتّ آخر قهوتي، ذلك الثفل المترسب في قعر الفنجان، أسدلتُ الستارة وخرجتُ أسير بين بقية جمع بليد كثفل في قعر المدينة. 

(*) أغنية العجائز للمغني البلجيكي جاك بريل (1929- 1978).