أور التي زارها البابا

محمود الزيباوي
الثلاثاء   2021/03/09
من تحف أور في المتحف البريطاني.
بعد زيارته التاريخية للنجف، حطّ البابا فرنسيس في مدينة أور الأثرية، عاصمة السومريين في الماضي السحيق، ومسقط رأس النبي إبراهيم بحسب الكتاب المقدس، وذلك بعدما شكّلت زيارة أور حلماً للبابا الأسبق يوحنا بولس الثاني في العام 2000.
 
سمع العالم باسم أور منذ زمن طويل من خلال الكتاب المقدس، لكنه لم يكتشف موقعها إلا في الأزمنة الحديثة. أنجب نوح ثلاثة أبناء انبثقت البشرية منهم بعد الطوفان، وهم سام وحام ويافث، ومع الأيام أصبح الساميون العائلة المتزعّمة على بقية ذرّية نوح، ومنهم تارح، الذي أنجب أبرام وناحور وهاران. وأنجب هاران لوط، "ومات هاران قبل تارح أبيه في أرض ميلاده في أور الكلدانيين" (تكوين 11: 28). اقترن أبرام من امرأة تُدعى ساراي، واقترن ناحور من امرأة تُدعى ملكة. بعدها، أخذ تارح ابنه أبرام، وكنته ساراي، وحفيده لوط ابن ابنه هاران، فخرجوا معا من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان. فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك" (تكوين 11: 31).

قضى تارح، أبو ابرام، أغلب حياته في أور الكلدانيين، مؤثراً عبادة الأوثان على عبادة الله، كما يستدلّ من الآية الثانية من سفر يشوع: "آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر. تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور، وعبدوا آلهة أخرى". عبد تارح آلهة عديدة، منها القمر، حيث كان هيكل مكرساً له في أور. أما أبرام، فآمن بالله الذي أسماه إبراهيم وأسمى امرأته سارة، وعقد معه العهد، فعمل إبراهيم عهوده ومواثيقه واقسامه باسم الرب، وكان إيمانه عظيمًا، وكانت له مسيرة طويلة معه اختصرها الكتاب في آية ذُكر فيها مرة ثانية اسم أور: "أنت هو الرب الإله الذي اخترت أبرام وأخرجته من أور الكلدانيين وجعلت اسمه إبراهيم" (نحميا 9: 7). 

بدأ البحث عن أور الكلدانيين في الأزمنة الحديثة، واتخذ طابعا علمياً في القرن التاسع عشر، حيث شرعت بريطانيا وفرنسا ثم أميركا وألمانيا "في ارتياد ديار بابل وآشور ونبش مدنها المدفونة، وكانت نتيجة إقدام هذه الدول ومجازفتها بأموالها ومخاطرة علمائها بحياتهم ملء دور التحف في أوربا وأميركة بآثار هذه البلاد وعتائقها وركازها"، كما جاء في تحقيق نُشر في مجلة "لغة العرب" العراقية في أيلول 1929. وبعد سلسلة طويلة من الأبحاث والتنقيب تبيّن أن أور الكلدانييين تقع في تل المقير، في بطائح واسط، على بعد 15 كيلومترا من مدينة الناصرية، جنوبي العراق. كان أوّل مَن أشار إلى هذا الموقع، الرحالة الإيطالي بيترو ديلا فاليه، الذي مرّ به في سنة 1625، وعاد منه ببعض من قطع الطوب المنقوشة التي أثارت فضوله. بعد سنوات طويلة، في 1849، حمل الجيولوجي البريطاني وليام لوفتس، من تل المقير كذلك، بعضاً من قطع الطوب المنقوشة إلى موطنه، وقام السير هنري كريزيك رولنسون بدراسة هذه الكتابات، وتبيّن له أنها تعود لمدينة تُدعى أور، وهكذا تمّ الربط للمرة الأولى بين تل المقير وأور الكنعانيين التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس. 

بعد هذا الكشف، بدأ التنقيب العلمي في التل سنة 1853 حيث عهد المتحف البريطاني بهذه المهمة إلى العالم الأثري جون جورج تايلور، وكان يومها وكيل قنصل البصرة. كشف تايلور عن زقورة أور المطمورة بالتراب، وهي الزقورة التي تعتبر اليوم أشهر معالم الموقع، كما كشف عن أسس قوس ضخمة تبين لاحقا أنها جزء مما عُرف باسم "بوابة الدينونة". هكذا خرجت زقورة أور من الظلمة إلى النور، وتبيّن أنها بنيت في عهد أعظم مؤسس سلالة أور الثالثة وأعظم ملوكها، سنة 2050 قبل الميلاد، كما تبيّن أنها كانت في الأساس مكوّنة من ثلاث طبقات يُرتقى إليها بواسطة سلّمين جانبيين وثالث وسطي، ويعلوها معبد مخصص لعبادة إلهة القمر إنانا التي عرُفت لاحقاً باسم سين في بلاد بابل وآشور. 

في القسم الأعلى من المبنى، عثر تايلور على أسطوانات طينية تحمل اسم نبو نيد واسم بيلشاصر. ونبو نيد هو آخر ملوك بابل، تزوج من ابنة نبوخذنصر، وجلس على العرش في 556 قبل الميلاد، وتنحّى عنه بعد ثلاث سنوات. أما بيلشاصر، فهو ابنه، وقد ورد اسمه في "سفر دانيال"، في قصة شهيرة تُعرف بـ"وليمة بيلشاصر". تبيّن سريعا أن الزقورة تعرّضت للانهيار، وقد أعيد ترميمها في عهد إشمي داغان، رابع ملوك سلالة الأموريين، ثم في عهد شو سين، رابع ملوك سلالة أور. تصدّع هذا الصرح، وأُعيد ترميمه في القرن الرابع عشر، وذلك في عهد سلالة الكيشيين التي حكمت أور بعد انهيار دولة بابل الأولى، ثم أصبح مكوّناً من سبع طبقات في عهد نبو نيد.

واصل تايلور العمل في الموقع، وكشف عن مقبرة بابلية، ثم كشف عن مقابر أخرى. بعدها زار الموقع العديد من الرحالة، واكتشفوا قطعاً أثرية أخرى، واتضح ان أور لا تزال تخفي الكثير من معالمها. سعى المتحف البريطاني إلى مواصلة أعمال التنقيب في الموقع في 1919، وبعث بعالمين من علماء الآثار، هما ريجينالد كامپبيل ثومپسون وهنري هال. بعدها، عقد المتحف البريطاني اتفاقاً مع جامعة بنسلفانيا لمواصلة هذا العمل، وتولّى هذه المهمة السير تشارلز ليونارد وولي، وعاونه ماكس مالوان. استمرّت أعمال التنقيبات التي أدارها هذان العالمان من 1922 إلى 1934، وأسفرت عن الكشف عن "المقابر الملكية" التي حوت مجموعة هائلة من الكنوز الفنية والألواح الرقمية. حوت هذه المقابر ست عشرة مقبرة ملَكية شُيّدت من الطوب واللبن، وكان في كل منها بئر، ولم تكن مخصصة للملوك وحدهم كما يبدو، إذ ضمّ بعض منها حاشية الملك الراحل وخدمه وجواريه، وذلك ليرافقوه في حياته الأخرى، في العالم السفلي. 

نُشرت نتائج هذه البعثة على مدى ثلاثين عاماً، وذلك في سلسلتين علميّتين، خُصّصت إحداهما للمكتشفات الأثرية، وخصّصت الأخرى للنقوش الكتابية. بالتزامن مع هذه الإصدارات العلمية، خصّ شارلز ليونارد وولي الجمهور العريض بمؤلّفات عديدة تحدّث فيها عن اكتشافاته، وتبنّى المقولة التي تجمع بين "أور الكنعانيين" مسقط رأس النبي إبراهيم، وأور التاريخية، وباتت هذه المقولة رائجة منذ ذلك التاريخ. في المقابل، شكّ الكثير من العلماء بهذه المقولة، ولا يزال السجال مفتوحا إلى يومنا هذا.

انتقل القسم الأكبر من كنوز أور إلى المتحف البريطاني في لندن ومتحف بنسلفانيا في فيلادلفيا، وباتت من أشهر آثار بلاد الرافدين. وبعد عقود طويلة، نظّم متحف بنسلفانيا في ربيع 2011 معرضا بعنوان "كنوز من أضرحة أور الملكية" جال في ثماني مدن أميركية، ثمّ أقام معرضاً حمل عنوان "ماضي العراق القديم". وساهمت هذه العروض في إعادة التعريف بميراث أور بشكل واسع.