لغز منى جبور

محمد حجيري
الأحد   2021/03/14
كتبت روايتها الاولى في ال16 من عمرها
شاهدتُ مؤخراً فيلماً قصيراً على موقع يوتيوب بعنوان "منى جبور/ فتاة نابغة"، اخراج رودريك زهر، هو عن الروائية اللبنانية الراحلة منى جبور، ابنة بلدة القبيات الشمالية، وصاحبة رواية "فتاة تافهة" التي كتبتها وهي في الـ16 من عمرها. ويتضمن الفيلم مقابلة مع مفيد جبور (شقيق منى)، يروى سيرتها ومشاكستها، والصعوبات التي واجهتها في تعلّمها، خصوصاً بعد حصولها على شهادة السرتفيكا، في مجتمع ذكوري يفرض على الأخ مرافقة الاخت أو الأنثى إذا ذهبت في مشوار إلى المدينة، وفي زمن لم يكن هناك تكميلية (تسمى اليوم متوسطة) في الريف... وتزامن اندفاع منى جبور للعلم مع بدء نبوغها رغم صغر سنها، واكتشافها من قبل الصحافية سلمى عفيش، التي بدأت تتواصل معها من خلال البريد وارسال الخواطر، قبل أن تزورها في القبيات وتتعرّف عليها وتساعدها وتشجعها على النشر في جريدة النهار...


ثم ما لبثت منى أن دخلت عالم التعليم بعد نزولها الى المدينة، وشاركت في نادي القصة وعملتْ محررة في مجلة "الحكمة"، وكانت تلتقي كبار الأدباء في تلك المرحلة وحتى السياسيين منهم كمال جنبلاط، والكل يستغرب نبوغها السريع وهي فتاة عشرينية... ويصل مفيد جبور في خاتمة الفيلم القصير إلى نفي قصة انتحار منى، التي وردت في الكثير من المراجع والصحف القديمة والمقالات النقدية، ومبرر مفيد لنفيه قصة الانتحار، أنّ منى بحسبه، كانت تحضّر لمشاريعها المستقبلية، ولديها رواية غير منشورة، وكانتْ فُتحتْ لها المجالات والمجلات والصحف، ومن يصل الى المجد لا ينتحر، بمعنى من المعاني، وهو قول يشبه قول بعض المؤدلجين بـ"أن الثوريين لا يموتون".. لم يعط مفيد جبور تفاصيل عن موتها أو رحيلها، فقط ينفي ما هو متداول. من حقه ان ينفي، وهذا شأنه وأمرٌ يخصّه، لكنه لم ينتبه إلى أمر، وهو أن الانتحار لا يرتبط بنمطية معينة، وليس البؤس وحده طريقاً إلى الانتحار، والمجد لا يمنع الانتحار وكذا السعادة، فهناك شخصيات كانت في ذروة المجد العالمي وانتحرت، من الفنانة داليدا إلى الروائي الاميركي ارنست همنغواي مروراً بالشاعر الروسي ماياكوفسكي...


وفي المتداول، نعرف أنه في 24 يناير/كانون الثاني 1964 رحلت منى جبور، اختناقاً بالغاز داخل حمام منزلها في بلدة القبيات، وكانتْ في الحادية والعشرين من عمرها. قبلها بعام تقريباً (11 شباط/ فبراير 1963) انتحرتْ الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، زوجة الشاعر البريطاني تيد هيوز اختناقاً بالغاز داخل مطبخ منزلها، وفي نفس العام (5 يناير/كانون الثاني) انتحرت الروائية المصرية عنايات الزيات، وقبلهما أيضاً في آب/ اغسطس عام 1962، انتحرتْ النجمة الأميركية مارلين مونرو، وكل هذه الانتحارات تحولتْ الغازاً لا تنتهي... لا نعلم إنْ كانتْ منى جبور تأثرتْ أو كانتْ على اطلاع بالانتحارات التي سبقتها، أو تأثرت بأحدهم أو احداهن، ليس هناك سرديات أو سِير ترفع الستائر عن ظاهرة تلك الكاتبة، إلا باستثناءات قليلة وضبابيةر. لكنْ ما يمكن قوله إن فكرة الانتحار كانت حاضرة على لسان أبطال روايتيها "فتاة تافهة" و"الغربان والمسوح البيضاء"، مرة من باب السؤال ومرة من باب العجز عن تنفيذه ما تفكر به أو يراودها. في روايتها "فتاة تافهة" ولئن هجست البطلة بالانتحار مرددة هذه "المقولة" مرات عدة ("لماذا لم انتحر؟ - لماذا لا انتحر؟ - أهرب من الحياة كلها فلمَ لا أموت؟...") هي كاتبة هاربة. تهرب مما تحبّ وممن تحبّ. وهنا ترتسم دائرة مأساتها الإنسانية الكبرى: "أنا أهرب أهرب أهرب عبر كل حرف وكلمة ونظرة... قبل مؤلفي الأول كنت أدرك أن تفجيراً ما سيكون خلاصي الوحيد في الحياة... لكني لمْ أكنْ واثقة أنه الأدب...". 


في روايتها "الغربان والمسوح البيضاء" تقول: "ساعدني لأبكي"(ص239)، من خلال طلبها من هشام(بطل الرواية) أن يضربها، تؤكد على أن هناك أمور في حياتها غير سوية، تأثر عليها سلبا، وتريد أن تعاقب نفسها من خلال طلبها (الغريب) "أضربني".. وهي وتعترف مباشرة بمرضها/بعقدتها من خلال قولها: "أنا ضجرة، ولا أقوى على الانتحار، الانتحار موقف معين له حدود، وضقت بنفسي، لماذا لا يأتي إنسان ما من الشارع ويقول لي أنت بحاجة للضرب مثلاً ويضربني.. ويضربني ويوجعني وأبكي وأحس أنّ باستطاعتي أن أمشي وأن أغني وأن أرى بوضوح الشارع والبحر والشرفات المغلقة هناك"(ص250). 


حتى في حياة منى اليومية حضر الانتحار بشكل من الأشكال لكن من بوابة الاستنكار. يقول الكاتب جميل جبر: "سألها صديق لي يسيطر عليه هاجس الانتحار: ما رأيك بالانتحار؟ قالت جبن! جبن لن أفكر أبداً بمثل هذه النهاية. يضيف جبر كانتْ على عدميتها تستنكرُ الانتحار وتأبى إلا أن تتحدى الحياة على تفاهتها وأن تسجّل آثار أقدامها على صفحة الوجود". وإن كانتْ استنكرتْ فكرة الانتحار لكنها كانتْ تزدري الحياة بطريقة عدمية. يقول جميل جبر أيضاً "عرفتها في اوائل سنة 1959 عندما جاءت الى مكتبي مع عادل مالك تعرض علي للنشر في مجلة "الحكمة" بعض قصائد منثورة يصرخ فيها التمرد على الوجود. أعجبني أسلوبها الكتابي على طراوة عوده، لكني خفت عليها من عنف التمرد". "لم يكن أول كتاب لها بعنوان: "فتاة تافهة" يدل على أن كاتبته، وهي في العشرين من العمر فتاة تافهة أبداً، بل فتاة مقتدرة ومبدعة"، و"أثارت الرواية اهتمام اوساط الادب اما تحبيذا واما استنكار"، يضيف جبر "ورجعت الي منى ذات صباح جمعة كئيبة على غير عادة، مع ان الكآبة صفة ملازمة لها تخفيها ببسمة تحدٍ قاهرة- فسألتها ما بها قالت "الحياة تافهة"، أجبتها: "هل هذا عنوان رواية جديدة. فردت علي بعنف: الحياة أتفه من أن تستحق كتابا عنها". فهي "كانتْ تحس دائماً أنها غريبة عن العالم، عن نفسها، عن أقرب الناس إليها". والواقع أن فكرة الموت كانتْ مسيطرة عليها في الآونة الاخيرة، و"كانت تشعرُ بانقباضٍ مستمر مع أنها كانتْ زاهية أكثر من المعتاد في الظاهر. فهي للمرة الأولى مثلاً في حياتها تخيط فستانا احمر وتختار له حذاء احمر وتعنى بإفراط في تسريحتها".

يسأل جبر "فهل شعرت بدنو اجلها فحاولت ان تعيش حتى الطفاف؟